رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إسرائيل» مُنحنى العنف وآليات التفكيك «2»

غداة حلول الذكرى الثلاثين لتوقيع «اتفاق أوسلو»، فى العاصمة النرويجية، بين الدولة الصهيونية ومُنظمة التحرير الفلسطينية، يوم الثالث عشر من شهر سبتمبر المُنقضى، تساءل الكثيرون من الخبراء والسياسيين، ومنهم «د. عبدالعليم محمد»، الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، الخبير الكبير فى الشأنين الفلسطينى والإسرائيلى، عما «بقى من أوسلو بعد ثلاثين عامًا؟»، وهو تساؤل مُلح ومشروع، خاصةً أن يومًا واحدًا لا يكاد يمر دون سقوط شهداء، ومصابين، ومعتقلين، ومطاردين من أبناء الشعب الفلسطينى، فضلًا عن هدم البيوت، ومصادرة الأراضى، ونهب الثروات، وتخريب الحقول، وتضييق هامش الحريات البائس المتاح لأصحاب الأرض، حتى لم تعد المساحة التى يقطن بها الفلسطينيون تُمثل «أكبر سجن فى العالم» كما وصفه بعض المراقبين الأجانب وحسب، وإنما أصبح المنهج الذى تمارسه إسرائيل تجاه أبناء الشعب الفلسطينى هو تكرار إجرامى لنظام الفصل العنصرى «الأبارتايد»، الذى مارسته الأقلية البيضاء، فى جنوب إفريقيا، قبل انهيارها وسقوط حكمها.

وقد تلاعب صائغو اتفاق «أوسلو» ورُعاته، على أرض الواقع، بالحقوق الفلسطينية المشروعة، واكتفوا بمنح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا شكليًا ومنقوصًا، وتنصَّلوا من طرح ومناقشة القضايا الأساسية وبحث جوهر الأزمة ولُب الصراع: أوضاع اللاجئين الفلسطينيين المُشردين فى أرجاء المعمورة، ووضع مدينة القدس، وقضايا الحدود والمياه وغيرها من الأمور الأساسية، ما أتاح للحكومات الصهيونية المتعاقبة فرص التلاعب والالتفاف والتآمر، بهدف تفريغ الاتفاق من مضمونه المحدود، وهو ما عناه «رئيس الوزراء الأسبق، «أيهود باراك»، حين ادَّعى، عام ٢٠٠٠، بـ«عدم وجود شريك فلسطينى للسلام»، الأمر الذى منح إسرائيل الفرصة- عبر سياسة «الأمر الواقع»- لفرض التهويد المتتابع للأرض الفلسطينية، وتوسيع نطاق الاستيطان الصهيونى شيئًا فشيئًا، حتى التهم أغلب مساحة أرض فلسطين، تحت سمع وبصر العالم كله. 

ومن منظور آخر، فقد تواكب مع تقدُّم المشروع الصهيونى على حساب الحق الفلسطينى، انكشاف ادعاءات الفكرة الصهيونية بانتمائها إلى الأفق العلمانى، والأيديولوجيا التقدمية، وزعمها الانحياز إلى قيم العدل والمساواة، وتظاهرها بمد يد السلام والتعاون للعرب، وأدى طغيان قوة وتأثير الجماعات والأحزاب والجماعات الدينية المُتطرفة على السياسات «اليمينية»، وتعمُّق هذا التأثير على امتداد حكومات «بنيامين نتنياهو» وحتى الآن- إلى تزايد سطوتها يومًا بعد آخر، ما شجعها على ممارسة عمليات الابتزاز السياسى الدائم لفرض نفوذها وتعظيم مصالحها، وبالذات فى الموقف العدائى والعدوانى ضد الفلسطينيين، والضغط لتوسيع المستوطنات، وتوسيع نطاق هجمات قُطعان المستوطنين، والتعنت فى قضية الأسرى وحقوقهم.. إلخ؛ حتى إن الحكومة الراهنة لـ«بنيامين نتنياهو» ضمّت عددًا من رموز الإرهاب والتطرف والكراهية للعرب والفلسطينيين، لم يسبق أن وصلوا إلى هذه المرتبة من قبل، فتألفت حكومته الأخيرة- إضافةً إلى حزب «الليكود»- من مجموعة من الأحزاب والشخصيات التى تمثل كوكبة من عُتاة الإرهابيين والمتطرفين، على رأسها «حزب الصهيونية الدينية» بقيادة «بتسلئيل سموتريتش»، إلى جانب حزب «عوتسماه يهوديت» بقيادة «ايتمار بن غفير»، وحزب «نوعم» بقيادة «آفى ماعوز»، وهى أحزاب تعكس سطوة تيار الصهيونية الدينية المتطرفة، والعنصرية المتأججة، المتحمسة للاستيطان على كل أراضى الضفة الغربية والقدس، وطرد الفلسطينيين، و«تحرير» المسجد الأقصى، والتحريض على استخدام القوة والعنف لـ«تنظيف» الأرض المقدّسة، وهى ذات الأحزاب والجماعات والشخصيات التى دعت إلى، ودعمت «الانقلاب» على «القيم الديمقراطية» المزعومة، التى دائمًا ما كان الكيان الصهيونى يُباهى بها، ويزعم أنه فى ذلك الاستثناء الوحيد فى المنطقة.

وهكذا فقد اجتمع لحكومة «بنيامين نتنياهو» الأخيرة «الأسوأين»: على المستوى المحلى والشأن الداخلى ما اعتُبرَ انقلابًا على «القيم الليبرالية» المترسِّخة، بسن تشريعات جديدة تُحد من سلطة القضاء واستقلاليته، خاصةً فيما يخص تفويض صلاحيات المحكمة العليا، التى تمثل المستوى الأرفع للقضاء فى إسرائيل، وهو الأمر الذى فجَّرَ سيلًا من الاعتراضات والتظاهرات والاصطدامات السياسية والعملية، منذ بدايات هذا العام وحتى الآن.

وعلى مستوى وضع أبناء الشعب الفلسطينى الصامد، الذى يتعرض لأبشع صور العنف والحصار والإهانة والعدوان، حيث بدا الوجه الصهيونى القبيح، بعد أن انزاح القناع، فى أبشع صورة وأسوأ ملمح، وانفضح جوهر الممارسات الإسرائيلية، بشكل واضح وصريح، كشاهدٍ لا يكذب على الممارسات الإجرامية المدانة دوليًا، مثل جرائم «التطهير العرقى» «Cleansing Ethnic»، التى تُعَرَّف باعتبارها: «سياسة واضحة جدًا لمجموعة ما من الأشخاص تقوم بشكلٍ منهجى باجتثاث مجموعة أخرى من منطقة ما على أساس أصولها الدينية أو العِرقية أو القومية، وتتضمن هذه السياسة استخدام العنف، وكثيرًا ما ترتبط بالعمليات العسكرية، وهى تحقق غايتها باستخدام كل الوسائل، من التمييز حتى الاستئصال، بما يستتبعه من انتهاك حقوق الإنسان، والشرائع الإنسانية الدولية»، وكلها سمات تنطبق كل الانطباق على ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين والعرب، عيانًا بيانًا، دون خشية من ملام، أو خوف من عقاب، لا من العالم ولا من الدول العربية جمعاء.

وعلى ذلك فقد وصلت الأمور فى الكيان الصهيونى إلى ذروة من التناقض غير مسبوقة، دفعت العديد من المفكرين والمواطنين العاديين إلى طرح أسئلة «وجودية»، تُشكك فى ماهية هذه الدولة، وفى قدرتها على البقاء والاستمرار فى الحياة، وهى على هذه الوضعية الحرجة، ترقص على سطح من الحديد والنار، وهو الوضع الذى يصفه الكاتب الإسرائيلى «يعقوب بن أفرات» قائلًا: «اليوم يُمثل الصراع الداخلى فى المجتمع الإسرائيلى هاجس الإسرائيليين جميعًا، حيث أصبح الخلاف على هوية (الدولة)، التى وصلت إلى شفا هاوية، بحيث لم يعد مُمكنًا لطرفى النزاع أن يجدا طريقة لحله».

وفيما يخص مُرتكز الصراع الوجودى الثانى، أى الموقف من الشعب الفلسطينى وحقوقه، فيرى «بن أفرات» أن الاعتقاد «بعدم وجود حل للقضية الفلسطينية» أصبح سائدًا فى أوساط الأحزاب الصهيونية»، و«العمل من أجل إقامة دولة فلسطينية فى الضفة والقطاع والقدس أصبح اليوم شيئًا من الماضى، أولًا بسبب انتشار الاستيطان، وثانيًا بسبب الفشل الذريع لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المُستقلة!»، انتهى كلام «بن أفرات»، لكن وجب الإشارة إلى أن «الفشل الذريع» المُشار إليه، خُطط له من أول لحظة، وتم تنفيذه بمهارة واحترافية، يجب الاعتراف بها، حتى تحقَّق.

وعودة إلى ذى بدء، فى محاولة للإجابة عن التساؤل المطروح فى المقدمة عما «بقى من أوسلو بعد ثلاثين عامًا؟»، يمكن القول إن ما بقى من الاتفاق بعض الوظائف الروتينية لهيكل دويلة فلسطينية منزوعة القوة والقدرة والاستقلال وشروط الحياة والنمو، فى مواجهة شراسة عدو مأزوم يعرف أن هزيمته الأولى هى هزيمته الأخيرة، ومن هنا وجب الحذر.

الأمين العام للحزب الاشتراكى المصرى