رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤتمر «بريكس».. خطوة ثابتة باتجاه نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب

بانتهاء وقائع القمة الـ١٥ لدول تجمع «بريكس»، التى تعقد بمدينة «جوهانسبرج» عاصمة جنوب إفريقيا، «٢٢- ٢٤ أغسطس»، التى شارك فيها ٤١ دولة من مختلف قارات العالم، عدا الدول الغربية التى رفض المشاركون وجودها فى هذا المحفل الدولى المهم- تكون الدول الساعية للتحرر من القيود الموروثة من العهود الاستعمارية التاريخية، والمتمردة على منظومة التسلط الغربى والهيمنة الأمريكية، وعلى ممارسات السياسات النيو ليبرالية المتوحشة، التى عانت من كوارث الخضوع لعبودية الدولار، ولإملاءات «صندوق النقد الدولى» و«البنك الدولى»، ... إلخ، قد حققت خطوة مرموقة إلى الأمام، فى المسيرة الطويلة التى بدأت منذ ١٧ عامًا، وكُللت عام ٢٠١١ بإطلاق هذه المبادرة التى جاءت فى وقتها تمامًا، لكى تعلن الجهات المؤسسة: «البرازيل، وجنوب إفريقيا، والصين، والهند، وروسيا» عن إطلاق هذا المشروع الطموح، «بريكس»، الذى يعكس اتحاد إرادة خمس دول كبرى تجاوزت حصتها من الاقتصاد العالمى، حسب إحصاءات «مؤسسة البحوث الاقتصادية البريطانية»، واستنادًا إلى «مؤشر القدرة الشرائية»، حصة «مجموعة السبع/G7» (الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكندا) فى عام ٢٠٢٢، الذى من المتوقع، حسب تقديرات «صندوق النقد الدولى»، أن يصل معدل مساهمته فى الاقتصاد العالمى إلى ٤٠٪ خلال السنوات الخمس المقبلة «الأهرام ٢١ أغسطس ٢٠٢٣».

كما تكون مسيرة «بريكس» قد قطعت شوطًا ناجحًا على مسار بناء البديل الموضوعى لهيمنة القطب الأمريكى الأوحد، الذى تربع على عرش العالم منفردًا، منذ أن وضعت «الحرب الباردة» أوزارها، فى أعقاب انكسار القطب السوفيتى المنافس ومنظومته الاشتراكية، وتفكك أوصالهما مع بدايات عقد التسعينيات فى القرن الماضى، الأمر الذى تدركه القوى الغربية، على رأسها الولايات المتحدة، بوضوح، وتعرف مخاطره على هيمنتها المنفردة على شئون العالم، وتسعى بكل السبل، من الاحتواء إلى الحرب، لمنع حدوثه، أو تأخير وقوعه، وحصر نفوذه، قدر الطاقة، فى أضيق نطاق.

وقد حدد الرئيس الصينى «شى جين بينج» مهمات مجموعة الـ«بريكس» وتوجهاتها الاستراتيجية بـ: «١» التمسك بالتآزر والتساند للحفاظ على السلام والأمن فى العالم، «٢» التمسك بالتنمية عبر التعاون، والعمل سويًا على مواجهة المخاطر والتحديات، «٣» التمسك بالريادة والابتكار لتفعيل إمكانات التعاون وتفعيل حيويته، «٤» التمسك بالانفتاح والشمول، وحشد الحكمة والقوة الجماعية. 

وترتيبًا على هذا المنظور، بادر تجمع الـ«بريكس»، فى خطوة مؤسسية بالغة الأهمية، إلى إنشاء أدوات نشاطه المالى العالمى، منها «بنك التنمية الجديد»، برأسمال بلغ نحو ٥٠ مليار دولار و«صندوق الاحتياطيات النقدية» للدول الأعضاء، لمواجهة نفوذ وسيطرة «البنك الدولى»، و«صندوق النقد الدولى»، والهيئات المالية لـ«الاتحاد الأوروبى»، ولتجاوز احتكار النظام المالى العالمى المرتكز إلى سيطرة الدولار على شئون الدول الاقتصادية، ولتقليص فرص التحكم فى مصائر الدول والشعوب المستمرة منذ عقود طويلة، وللعب دور رئيسى فى إعادة تشكيل الوضع الاقتصادى والجيو سياسى العالمى، ولمنح المجموعة «قوة تأثير سياسية» فى مفاوضاتها لصالح النظام المالى الدولى المستهدف من جهة أخرى، وهو الدور الذى أوضحه وزير المالية الهندى السابق «تشيد أمبارام» بقوله: إن «بنك التنمية» يهدف إلى زيادة قدرة المجموعة على مواجهة الأزمات العالمية، وتعزيز مكانتها الدولية، وما حدده الرئيس الروسى السابق «دميترى ميدفيديف» فى أول قمة للمجموعة عُقدت بـ«إيكاترينبرج» بروسيا الاتحادية عام ٢٠٠٩، بإعلانه «ضرورة تغيير نظام العملة العالمى»، فى سياق إعراب دول المجموعة عن توافق إرادتها على إسقاط الدولار كعملة احتياطية عالمية، ولخدمة مجهودات تمويل التنمية «المستقلة» فى الاقتصادات الصاعدة.

لكن إزاحة التكتل الغربى بزعامة الولايات المتحدة عن عرش المال والسياسة العالميين ليس بالأمر الهين، فلم تقف المؤسسات الغربية تتفرج على خصمها الفتى الصاعد بقيادة الاقتصاد الصينى المتقدم دون وضع الاستراتيجيات اللازمة لمواجهة هذا التحدى المصيرى الذى يُهدد بأفول نجمها، وبوجود شركاء «خصوم أعداء» ليسوا بالهينين، على قمة المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية، وتصاعدت التهديدات بضرورة الاستعداد لمواجهة شرسة مع هذا الخصم العنيد، بقيادة الفتى الخطير الصاعد «الصين»، والعدو اللدود الطامح للانتقام من هزائم الماضى «روسيا»، خصوصًا بعد تفجر وقائع الحرب الأوكرانية، وللحد من سرعة تقدم هذا التشكيل الذى ينمو ويضم أطيافًا جديدة كل يوم، وتواترت على لسان الرؤساء الغربيين، وأولهم الرئيس الأمريكى «جو بايدن»، التحذيرات من وجوب الاستعداد للمواجهة الحاسمة القادمة لا محالة، إن سلمًا أو بوسائل أخرى، بدعوته فى يونيو ٢٠٢١، لدى مشاركته فى أول قمة لحلف شمال الأطلسى «ناتو»، فى عهده، إلى طى صفحة التوترات، التى برزت بين أمريكا ودول الحلف الغربية، خلال إدارة الرئيس السابق، «دونالد ترامب»، والتركيز بدلًا من ذلك على التهديدات الخارجية، وعلى رأسها الصعود المنتظم للصين كقوة عظمى جديدة. 

أما وزير الخارجية الأمريكى، «أنتونى بلينكن»، فقد أعلن بوضوح أن: «المفهوم الاستراتيجى الجديد، الذى تبنته الولايات المتحدة، يهدف إلى تعزيز إمكانية مواجهة تحديات اليوم والتحديات المستقبلية، ويشمل ذلك المشهد الأمنى الحالى الجديد بالنظر للحرب فى أوكرانيا، وأنشطة الجماعات المسلحة، والأمن السيبرانى، والصداقة بين روسيا والصين، وجهودهما لإضعاف النظام الدولى الذى يعد أساس الأمن والسلم حول العالم» (أ. ش. أ، مصر أول يونيو ٢٠٢٢). كما أكد هذا التوجه أمين عام حلف «ناتو»، «ينس ستولتنبرج»، بتصريحه فى ١٤ يونيو ٢٠٢٢، أن: «حلف «ناتو» سيتخذ قرارات مهمة فى قمة الحلف المقبلة فى مدريد، بما فى ذلك اعتماد مفهوم استراتيجى جديد، وأن العقيدة الاستراتيجية الجديدة لـ«ناتو» ستعكس التغيرات فى العالم، وتمنع تأثير روسيا والصين على أمن الحلف، مؤكدًا أن: «عقيدة ناتو التى وضعت فى ٢٠١٠، يجب أن تتغير، لأنها لم تشمل عددًا من القضايا، على رأسها التهديد الروسى والصينى»، مضيفًا: «إن النفوذ الصينى المتنامى لإعادة تشكيل العالم، نتجت عنه عواقب مباشرة على أمننا وديمقراطياتنا، لذلك يجب تغيير بعض المفاهيم»، فـ«مرحبًا» بـ«جهود الاتحاد الأوروبى فى مجال الدفاع، والتى يمكن أن تؤدى إلى مزيد من الاستثمار والقدرات الدفاعية». 

وأيضًا فى هذا الصدد، أوضحت المندوبة الأمريكية لدى حلف «ناتو»، «جوليان سميث»، خلال مؤتمر مكرس لقضايا الأمن فى واشنطن، «يونيو ٢٠٢٢»، أن: «أعضاء ناتو يعتقدون بأن روسيا تنتهك بنود الاتفاقية الأساسية لروسيا والحلف». وركّزت على أن «ذلك يعنى إلغاء القيود على نشر قوات ناتو فى أوروبا الشرقية والوسطى». وأشارت إلى أنه «علاوة على ذلك، ستكون هناك إضافات جديدة للاستراتيجية، ونحن على الأرجح سنرى ذكر الصين فى الاستراتيجية الجديدة لأول مرة».

لكن الأمر لم يتوقف على التصريحات والأقاويل، وإنما تعدى ذلك إلى الفعل على أرض الواقع بزيادة موازنة الحرب الأمريكية إلى ٨٠٠ مليار دولار هذا العام، وهى أكبر موازنة حرب فى التاريخ الإنسانى كله، تأهبًا لمواجهة قوة عنيدة بازغة تضم أربعة من أقوى وأكبر الجيوش فى العالم: روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، وتحوى ترسانتها الدفاعية كمًا هائلًا من العتاد النووى والصاروخى والفضائى بالغ التقدم، وتضم نحو ١٢ مليون مجند معد لحروب المستقبل بتعقيداتها وأبعادها.

ويبقى أن نشير إلى أن «بورنيما أناند»، رئيسة «المنتدى الدولى لدول بريكس»، قد أشارت إلى انضمام محتمل لدول جديدة إلى المجموعة، وذكرت أن «تركيا ومصر والسعودية قد تنضم قريبًا»، كما سبق لموسكو أن أعلنت عن استعداد إيران والأرجنتين للانضمام، كما أعلنت الجزائر عن إيداع ملف رسمى لطلب الانضمام إلى المجموعة، وهى بوادر طيبة، تشير إلى طموح مشروع للانعتاق من مستنقع الديون والتبعية الاقتصادية. 

وأخيرًا فإن نتائج مؤتمر «بريكس» الذى يمارس أنشطته وقت كتابة هذا المقال، تستحق فى الأسبوع المقبل إن شاء الله، مناقشة معمقة، لأنشطته وتوجهاته، وقراراته وتوصياته، بالنظر إلى تأثيراتها المباشرة على مستقبل شعوب العالم وشعبنا.