رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوارات «البوكر».. الروائى الجزائرى الصدّيق حاج أحمد: الرواية للمعرفة وليست للمتعة فقط

الروائى الجزائرى
الروائى الجزائرى الصدّيق حاج أحمد

- الرواية للمعرفة وليست للمتعة فقط.. والجوائز تمنح شحنًا وتدفع إلى العمل أكثر

- الرواية مُلتقى الخطابات و«المحلية» فى الأدب هى الذات المسرودة فى حيوات الآخرين

بحوزة الكاتب الجزائرى الصدّيق حاج أحمد الزيوانى إلى الآن ثلاثة أعمال روائية، هى: «مملكة الزيوان» (٢٠١٣)، و«كاماراد» (٢٠١٦)، و«مَنّا» (٢٠٢١)، فضلًا عن أعمال غير روائية هى: «التاريخ الثقافى لإقليم توات»، و«الشيخ محمد بن بادى الكنتى حياته وآثاره». 

يعمل الكاتب الجزائرى مديرًا لمخبر السرديات بكلية الآداب فى جامعة أدرار، وأستاذًا للتعليم العالى لمقياس اللسانيات العامة ولسانيات الخطاب، وقد فاز بالجائزة التقديرية من وزارة الثقافة الجزائرية حول الكتابة السردية عن الصحراء، ووصلت روايته الأحدث «مَنّا»، مؤخرًا، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. 

يتطرق هذا الحوار، الذى أجرته «الدستور» مع «الزيوانى»، إلى ملامح مشروعه السردى حول الصحراء وأهميته عبر تبيان تفاصيل رواياته الثلاث فى هذا الصدد، وبالتركيز على روايته الأحدث «مَنّا»، التى نناقش بعضًا من مقاصدها وغاياتها، وما تثيره من قضايا حول الرواية ودورها. 

■ بدأت الكتابة الروائية منذ العام ٢٠١٣ وأنتجت حتى الآن ثلاث روايات.. ما الذى اختلف فى عملك الأحدث «مَنّا» عن الروايتين السابقتين؟ وما الذى حافظت على استمراره فى كتاباتك باعتباره سمة تريدها أن تكون لصيقة بأسلوبك ومشروعك؟

- لقد ظلّ هاجس فضاء الصحراء ومناخاتها السردية هو مشروعى، بيد أننى أعلنتُ منذ الرواية الأولى عن تسطير مشروعى السردى الواعى، الذى يحفر فى تربة فضاء الصحراء الكبرى، وما جاورها من بلاد الزنوجة؛ غير أن لكلّ نص تربته ومناخه الخاص، فالرواية الأولى «مملكة الزيوان» جاءت لتحاكى المنشأ وقصور توات الطينية وواحاتها، وما طرأ على المجتمع التواتى من تحولات، كما خلخلت عديد القضايا الحساسة بهذا المجتمع الذكورى، التى تعتبر طابو مسكوتًا عنه، كحرمان الأنثى من الميراث.

أما روايتى الثانية «كاماراد»، فقد سافرت نحو بلاد الزنوج، وأعتقد جازمًا أن هذه المناخات الزنجية كانت مغيّبة إن لم نقل معدومة فى مدونة الرواية العربية، مما جعل مشروعى المتواضع يلتفت إلى أمر مهم، ذلك المتعلق باستثمار الجوار الإفريقى فى الرواية العربية، وقد أشاد بذلك النقاد، واعتبروه فتحًا مبينًا بالنسبة للرواية العربية.

وبالنسبة للرواية الثالثة «مَنّا»، فقد غيّرتُ البوصلة باتجاه بلاد التوارق من شمال مالى، وحاولتُ من خلال هذا النص أن أزيل الغبار عن قضية هامة ومهمة فى تاريخ الصحراء الكبرى، وهى قضية جفاف ١٩٧٣ الذى أصاب شمال مالى، بل نستطيع القول إنها غيّرت مسار الصحراء الكبرى قاطبة، لما انجرّ عنها من تداعيات الهجرة نحو دول الجوار، فضلًا عن دعوة القذافى لأولئك التوارق للمجىء نحو ليبيا، وفتح معسكرات التدريب لهم، وسيل لعابهم بأمنية نائمة، تلك المتعلقة بمعاونتهم فى قيام دولة أزوادية بشمال مالى، مما جرّهم فى حروب بالوكالة نحو جنوب لبنان وتشاد.

■ كيف تبلورت فكرة رواية «مَنّا» فى ذهنك على مدار السنوات إلى أن وصلت لهذه الصيغة النهائية؟

- الفكرة انبثقت فى ذهنى، وتصيّدتها كملمح استوقفنى قبل عقدين من الزمن أو يزيد، تحديدًا عندما كنت طالبًا بقسم الماجستير، حيث اخترتُ إحدى الشخصيات الأدبية المغمورة بشمال مالى، مما دعانى للسفر هناك، ومحاولة التنقيب عن آثارها وحياتها، فاسترعى انتباهى ذلك التوجّع والحسرة، التى لوّنت حديث الشيوخ والعجائز معى، حول ما أصابهم خلال جفاف ١٩٧٣، فظلت تلك الدهشة تلمع فى ذهنى من حين لآخر، حتى قامت حرب الأزواد فى مطالع التسعينيات، وتعرّفت حينها أن هذه الحرب هى من تداعيات ذلك الجفاف، وما حصل للتوارق فى ليبيا مع القذافى، عندها وجدت الفرصة سانحة للكتابة عن هذا المنسى المتروك فى سلّة التاريخ. 

■ وما الذى جعلك تتخذ من حادثة الجفاف ١٩٧٣ أساسًا لرواية قصة الأزواد ومعاناتهم؟ هل أردت أن تفهم راهن الأزواد بالوصول إلى جذوره الممتدة فى عمق التاريخ؟ وهل ترى أن شتات الأزواد وأزماتهم قد أججها الاستغلال العربى والغربى معًا؟

- مشكلة الأزواد سببها الأساس هو الاستعمار الفرنسى، ومن ثمة دخول القذافى على الخط بعد ذلك، ومحاولة استغلاله وضع التوارق فى شتاتهم بعد الجفاف.

الجذور الأولى لحرب الأزواد الراهنة تعود إلى سنة ١٩٥٧، أى قبل استقلال مالى بثلاث سنوات، عندما شكّل التوارق وفدًا للتفاوض مع الحاكم الفرنسى بمدينة غاو، حول منح شمال مالى لهم، بحكم أنهم يختلفون عن عرق الزنوج فى تاريخهم وعاداتهم؛ لكن فرنسا منحت الشمال خلال الاستقلال لحكومة باماكو بالجنوب، مما دعا التوارق للقيام بثورة كيدال، بعد ثلاث سنوات من الاستقلال، فقد ظلّ هاجس الوطن يؤرقهم طيلة هذه المدة، حتى وجدوا فى دعوة القذافى تنبيهًا لحلم قديم.

■ تحفل الرواية بما يمكن اعتباره سجلًا لعادات أهل الصحراء وتقاليدهم، بدءًا من اللغة، مرورًا بالأفكار والمعتقدات، ووصولًا إلى عادات المأكل والمشرب.. فهل تهدف إلى أن يصير العمل الروائى حاملًا لهوية أهل الصحراء وشاهدًا عليها؟ 

- أى رواية لا بد لها من تأثيث، فلا يمكنك أن تتحدّث عن التوارق دونما التأثيث لثقافتهم وعاداتهم؛ لأن هذا البطل التارقى، ومن معه، يعيش ذاته وفى مجتمعه، لذلك من الضرورى معرفة ذهنيتهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فالرواية لم تعد للمتعة فقط؛ إنما للمعرفة كذلك، وهذا ما حاولت الرواية أن تقدمه للمتلقى العربى. 

■ وهل يندرج تركيزك على حضور اللهجات المحلية فى الرواية تحت مسعى حفظ الهوية؟ ألم يراودك القلق من صعوبات فى التلقى لمن لا يفهم اللهجات المحلية، وهى شكوى متكررة لدى قرّاء لأعمال أدبية تنحو المنحى ذاته؟ 

- بخصوص اللغة التارقية، فقد حرصتُ على تفسير وشرح كل الكلمات التارقية، وذلك بطريقة ذكية ضمن ثنايا السرد، حتى أجعل من ذلك ثراء للغة العربية فى استفادتها من جوارها.

أما بخصوص صعوبة التلقى، فهذه دعوة باطلة وتدعو للكسل القرائى.. أستغرب من تعاطى القارئ العربى مع الكلمات اليابانية والصينية والأمريكولاتينية والأوروبية المترجمة للعربية، ويشتكى من الكلمات الجوارية، التى هى أصلًا متلاقحة مع العربية، زِد على ذلك فهى مشروحة ضمن ثنايا السرد.

■ فى هذا السياق، أى نوع من القراء كان حاضرًا فى ذهنك فى أثناء كتابتك الرواية، هل كان القارئ المتخيل منتميًا إلى المناطق الجغرافية التى تطرقت إليها الرواية فأردت أن تخاطبه عن تاريخه أم أنك تخيلت قارئًا عربيًا من أى بقعة وربما عالميًا؟ 

- تخيّلت قارئًا عربيًا وكونيًا من أى بقعة فى العالم يترجم إليها النص، فالنص مكتوب بالعربية، وكلماته التارقية مشروحة فى ثنايا السرد.

■ كان نجيب محفوظ يرى أن الإمعان فى المحلية هو الطريق نحو العالمية.. فإلى أى مدى تتفق مع هذا الطرح؟ 

- صحيح.. فالأدب الأمريكولاتينى مثلًا وصل إلى العالمية انطلاقًا من المحلية، وهكذا نجيب محفوظ، والطيب صالح وغيرهما، فالمحلية هى الذات المسرودة فى حيوات الآخرين البعيدين، بحيث يستطيعون تمثلها وتشكّلها فى ذواتهم.

■ وما الحدود التى تظن أنه يتعين الوقوف عليها فى العمل الروائى التخييلى حين يصير مُحملًا بالمعارف المختلفة؛ الأنثروبولوجية والسياسية والثقافية؟

- الرواية هى ملتقى الخطابات.. فيمكن للروائى توظيف ما شاء من معارف وتقنيات، شريطة أن يحتفظ بشروط التجنيس الروائى للعمل، غير ذلك فلا أحد يستطيع تقييد الروائى بشروط معينة.

■ إن كانت أعمالك تؤرخ بصورة ما للصحراء وشعوبها.. فما أوجه افتراقها عن أعمال الكتّاب الآخرين الذين أولوا الصحراء اهتمامًا كبيرًا فى أعمالهم، وعلى رأسهم الروائى الليبى إبراهيم الكونى؟ 

- لكل كاتب رؤيته.. وهذا هو الإبداع، فالكونى هو فاتح سرديات الصحراء، له فلسفته الخاصة فى الكتابة، لذلك حاولت أن أجترح لنفسى أسلوبًا خاصًا فى الكتابة والطرح واصطياد الثيمات وتقنيات التجريب.

■ جاءت نهاية الرواية فى صورة تفسير رؤية، وهى الكلمات النهائية التى اختتم بها العمل: «وطن أزوادى، لا يزال يتأرجح على سنام إبله، أمام زكاة فرنسا لصرصرة زوابعه...» ما سبب اختيارك هذه النهاية؟ هل أردت من خلالها الانفتاح على المسارات المجهولة التى قد يحملها مستقبل الأزواد؟ 

- علينا ألا نقدّم النهايات الجاهزة سلبًا أو إيجابًا؛ بل نترك النهايات مفتوحة أمام المتلقى.

■ ما الذى غيّره ترشح عملك لجائزة البوكر من تخطيطك لعملك كروائى؟ هل قدّم هذا الترشيح دفعة لك لإيلاء مزيد من الجهد لمشروعك الروائى؟

- تظلّ الكتابة ملاذى بالجوائز وبدونها؛ لكن الجائزة تعطيك شحنًا ووقودًا قد يدفعك إلى العمل أكثر، كما أنها تمنح نصوصك متابعة ومراجعة من لدن القراء والنقاد، فضلًا عن ترجمتها.

■ وما الجديد الذى ستعمل عليه فى الفترة المقبلة؟ وما موضعه فى إطار مشروعك عن الصحراء؟ 

- أنبرى حاليًا لكتابة النص الرابع، الذى يسير ضمن المشروع السردى؛ لكن بقضية وتربة جديدة ومناخ جديد أيضًا.

«مَنّا».. عالم أهل الصحراء فى رواية

تُلقى رواية «مَنّا» الضوء على مشكلة الأزواد التى ترجع إلى ما قبل استقلال مالى، وتحديدًا فى العام ١٩٥٧ عندما زار وفد مكوّن من عدد من القبائل الحاكم الفرنسى للمطالبة بتمكين الشمال للبدو، لكن فرنسا عقب استقلال مالى سلّمت الشمال لباماكو، لتقوم تلك القبائل بثورة ضد الحكومة هى ثورة كيدال. تقدم الرواية مسحًا لمشكلة الأزواد يبدأ منذ ذلك التاريخ وصولًا إلى الثورات العربيّة وسقوط حكم القذافى، لكنها تنطلق من واقعة الجفاف الذى وقع فى العام ١٩٧٣، والتى تسمى فى لغة التوارق «مَنّا»، إذ رسم هذا التاريخ واقع شتات أهل الصحراء وترحالهم بين مصائر بائسة. قادت واقعة الجفاف، التى برع الكاتب فى رسم آثارها المدمرة والمهلكة على الإنسان والحيوان على حد سواء، إلى هجرات توزّعت إلى أربع بقاع؛ الأولى نحو موريتانيا والنيجر وبوركينافاسو، والثانية نحو الجزائر، والثالثة صوب ليبيا، والرابعة باتجاه الحجاز. كانت الهجرة الأكبر نحو الجزائر فيما ظلت الهجرة إلى ليبيا الحدث الأكثر قتامة الذى قذف بأهل الصحراء فى معارك لا تخصهم طمعًا فى وطن متوهم للأزواد وعدهم به الرئيس الليبى القذافى إمعانًا فى استغلالهم لصالح حساباته الخاصة. يحفل النص بالمعلومات الأنثروبولوجية والتاريخية عن أهل الصحراء، فيرصد عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، ومن ذلك ما يعتقدونه من أن الأغنام والأبقار أقل صبرًا ومقاومة من الإبل والماعز، وأن تعلّق أهل الصحراء بأماكنهم لا يماثله شىء، ما يجعل من واقعة الهجرة بعد الجفاف حدثًا مأساويًا مؤسفًا لكنه فى الآن ذاته خيار لا سبيل للحيدة عنه هروبًا من حفلة موت لا تُبقى على شىء.