رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قبل طرحه.. "الدستور" تنفرد بنشر فصل من كتاب "ناحية الماء والكلأ"

خليل صويلح
خليل صويلح

ينتظر الكاتب الروائي السوري خليل صويلح، صدور كتابه "ناحية الماء والكلأ.. مرافعات عن عمل الحكّائين"، والمقرر أن يصدر قريبًا عن دار "نينوى ــ دمشق". 

والكتاب بحسب- صويلح- والذي خص الـ"الدستور" بفصل منه تحت عنوان "عندما استعاد الحلّاق الدمشقي سرديته المفقودة"، يسعى إلى اقتفاء أثر روايات، كانت بالنسبة لي، مرجعًا جماليًا في الكتابة، وشغف القراءة، مثلما هي مشغل سردي لتطوير عمل المخيّلة، والتحليق عاليًا مع شخصيات وأماكن ومواقف، لطالما كانت بمثابة قوارب إنقاذ من يأس مؤكد. هكذا كان عليّ أن أعمل على حراثة نصوص مُلهمة بتحديقة مختلفة لجهة الحذف، والإضافة، كما لو أنها نسخة أولى بحاجة إلى توطين أو قيد نفوس.

ــ "عندما استعاد الحلّاق الدمشقي سرديته المفقودة"

بجرعة بنج مركّزة، أطاح محمد سعيد القاسمي بمخطوطة "حوادث دمشق اليومية" التي دوّنها المؤرخ الشعبي شهاب الدين بن أحمد بن بدير الحلّاق، أواخر القرن الثامن عشر، من موقعه كحلّاق يتطلع لأن ينتسب إلى طبقة العلماء، خصوصًا أن بعض الأعيان كانوا يترددون إلى محلّه، فكان ينصت إلى أحاديثهم باهتمام، ويدوّن يومياته كمرآة لأحوال المدينة ومكابدات العوام.

 أخضع القاسمي النص لعملية جراحية أفضت إلى بتر أعضاء النصّ بقوة الحذف والإضافة، تحت بند التنقيح والتهذيب. يروي القاسمي بأنه أراد أن يبتاع شيئًا من عطّار، فوضع العطّار ما باعه في ورقة مكتوبة، ولما عاد الشيخ إلى بيته، فتح الورقة وقرأ ما فيها، فأدرك أنها جزء من مخطوطة تاريخية، فعاد على الفور إلى دكّان العطّار وحصل على بقية الكرّاسة، حتى اجتمعت له مخطوطة "حوادث دمشق اليومية". ما فعله القاسمي فعليًا هو تشويه النصّ الأصلي، بقصد تسكين آلام الحلّاق ومحوها من متن هذه المدوّنة النفيسة، بلغة هجينة أطاحت عامية الحلّاق، وإذا بالمخطوطة تتحوّل إلى بطة عرجاء لا هوية أصلية لها، وكأن القاسمي أراد محو سرديات مؤرخ العامية التي تنطوي على موقف نقدي صريح مما كان يجري في تلك الفترة المضطربة من تاريخ دمشق، خلال عهد الوالي أسعد باشا العظم، فحذف كل ما يخصّ استبداد الوالي تجاه الرعية، وممارسات الأعيان، والأشعار الهجائية، وحتى بعض الأمثال الشعبية، كأن يتحوّل المثل الشعبي الدمشقي "كلام الليل ملطوخ بزبدة، فإذا طلع عليه النهار ذاب"، إلى "كلام الليل يمحوه النهار"، بالإضافة إلى عشرات المذابح الأخرى، فههنا نسف علني لسرديات العوام كنوع من التعالي على الهامش، لكن رحلة المخطوطة لن تتوقف هنا، إذ وصلت نسخة منها إلى القاهرة، ثم ارتحلت إلى مدينة دبلن، بعد أن اقتناها رجل أعمال أمريكي يُدعى ألفرد شستر بيتي، يعيش في إيرلندا، لتأخذ مكانها في رفوف مكتبة المدينة حتى اليوم. في النسخة الأصلية من المخطوطة التي حققها أخيراً، فارس أحمد العلاوي، يعيد الباحث السوري الحق لصاحبه باسترجاع الفصول المحذوفة من المخطوطة، خصوصًا تلك التي ينتقد الحلّاق فيها عهد والي دمشق أسعد باشا العظم وجوره على الأهالي،  بالإضافة إلى  تحليل محتويات المخطوطة، وسيرة المؤلف، والمصادر التي اعتمدها في كتابة يومياته، كاشفًا عن أبرز الظواهر التي رصدها هذا الحلّاق النبيه طوال 23 عامًا (1741- 1762) من موقع المراقب لأحوال المدينة عن كثب، وتوثيق كلّ ما يتعلّق بالغلاء، وزيادة نسبة الفساد الأخلاقي، وارتفاع الضرائب، ففي القوائم المرفقة بأسعار البضائع والمواد الغذائية إشارة إلى تدهور أحوال الناس المعيشية "ما جعل الخلق تستغيث وتستجير"، و"تركوا الأعوام في الذل والإرغام، منتظرين الفرج من الملك العلّام ومغيّر الدول والأزمان"، و"وزير الشام مشغول في عمارة داره، ولم يلتفت إلى رعاياه وأنصاره"، و"ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبدًا، وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال".

لا تكمن أهمية هذه المخطوطة في نبرة الاحتجاج والسخط والإحساس بالهوان حيال ما أصاب دمشق في ظل الحكم العثماني فقط، وإنما في تقنياتها السردية التي تنطوي على شغف في تدوين تاريخ العوام، من وجهة نظر شاهد العيان الذي كان يراقب من دكانه تدهور الأوضاع، وانحطاط القيم، وعدم الاكتراث بأحوال الشارع من ضفةٍ أخرى، تلفت دانة السجدي في أطروحتها "حلّاق دمشق: محدثو الكتابة في بلاد الشام"، إلى الاستراتيجيات الاجتماعية التي سخّرها الحلّاق، والممارسات الخطابية التي قوّضها حين وطأ وتدبّر واستفاد من مكانته الجديدة بين النخبة المتعلّمة، منخرطًا في تدبير حيل تعكس حداثة مكتسباته الثقافية كمتصوّف يتطلّع إلى مكانة علمية أعلى، ومنزلة اجتماعية رفيعة، وتاليًا "الانتقال من الفضاء النصّي إلى الفضاء العام"، وذلك بذكر أسماء العلماء الذين كانوا يترددون إلى دكانه كزبائن، ما جعله يتمكّن من "اقتحام السلسلة الأفقية التي تجمع بين العلماء في زمنه"، فكان "يقص شعر النخبة، وفي الوقت ذاته يقصّ قصته معهم". وتشير دانة السجدي إلى المجزرة التي ارتكبها القاسمي بحق ابن بدير، بأنها أتت من موقع طبقي ينتصر للوالي لا الرعية، وذلك بـ"إسكات الحلّاق وتغيير لغته إلى درجة أنهما أصبحا، في أحسن الأحوال، خلفيّة ظريفة، ويبدو أن العالِم لم يستطع استساغة مخاوف محدثي الكتابة وطموحاتهم، فاضطر إلى إرجاع الحلاق إلى مكانته الاجتماعيّة الملائمة. بعبارة أخرى يستغل المحقق حقيقة موت الحلاق ليقتله مرة أخرى فيحذف الحلاق وحياته من النصّ".