رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة جديدة لـ«نصر حامد أبوزيد» 4

محمد الباز يكتب: إمام التفكير.. نصر أبوزيد يكشف خدعة «الإخوان»

محمد الباز
محمد الباز

- نصر ووالده تم القبض عليهما بعد محاولة الإخوان اغتيال جمال عبدالناصر لأنهما مسجلان فى كشوف الجماعة

بعد خروج نصر حامد أبوزيد من مصر بسبع سنوات، وتحديدًا فى العام ٢٠٠٢، حصل على ميدالية «فرانكلين روزفلت» لحرية العقيدة. 

الميدالية تُمنح كل عام لمن ترى لجنتها أنه يدافع عن حرية الفكر والضمير، وقد رأوا فى نصر أنه واجه، كأستاذ للدراسات الإسلامية، كلًا من الإسلاميين الذين تبنوا الدعوة ضد المسلمين الذين لا يقبلون برؤيتهم، كما واجه هؤلاء الذين ساووا فى الغرب عن جهل وتعالٍ ثقافى بين الإسلام والإرهاب، وأنه فعل كل ذلك وهو يتحدث بقوة وبلاغة متحملًا نتائج هذا على حياته الشخصية. 

فى كلمتها أثناء حفل تسلمه الميدالية قالت «آنا إيليانور روزفلت» عن نصر ضمن ما قالته موجهة حديثها إليه مباشرة: كطفل قروى يكبر فى قحافة، حفظت القرآن بسن الثامنة، لكن متحولًا عن تلك الدراسة التى أحببتها، بفعل والدك أصبحت «فنى لاسلكى» فى فترة أتاحت لك أن تتعرف عن قرب بالإخوان المسلمين قبل العودة مرة أخرى للدراسات القرآنية، ومع إعجابك بالتزام الإخوان المسلمين بالأفكار التى يقتنعون بها، لم تثق فى أيديولوجيتهم الخاصة بدمج الإسلام ومفهوم الدولة، وهو التطور الحديث فى التاريخ الإسلامى، الذى تعتبره أمرًا يؤدى لا محالة لديكتاتورية شمولية، وهى أسوأ أنواع الاستبداد، لأنها تمارس السلطة على الأرض متخذة اسم الله. 

كان نصر حامد أبوزيد يعرف جيدًا مرامى جماعة الإخوان الإرهابية، فهى الرحم التى خرج منها كل جماعات الإسلام السياسى التى حوّلت نصوص وتفسيرات واجتهادات الفقهاء إلى نص مقدس يحظى بالقداسة التى يحظى بها القرآن الكريم، ثم حوّلت هذه النصوص إلى سلطة مطلقة لتحكم بها وتتحكم فى رقاب الناس. 

قصة نصر مع الإخوان طويلة ومتشابكة ومعقدة، تكشف لنا كيف كانت هذه الجماعة تعمل فى قرى مصر فى غفلة من الجميع. 

فى فبراير ٢٠٠٤ نشر نصر أبوزيد مقالًا شاملًا تحت عنوان «حياتى»، تحت عنوان «الإخوان المسلمون» قال: فى قريتى، كما فى القرى المصرية دون استثناء، كانت هناك شعبة للإخوان المسلمين، لم يكن الناس يتعاملون مع جمعية الإخوان المسلمين، كما يتعاملون مع حزب سياسى، فقد كان نشاط الإخوان ذا طابع اجتماعى خيرى يتمثل فى مساعدة الفقراء فى المناسبات المختلفة، وفى مد يد المساعدة والعون فى المحن والشدائد، وعقد لجان المصالحة فى بعض الخلافات التى كانت تنشب بين الحين والآخر بين العائلات فى القرية أو بين أفراد العائلة الواحدة، هذا بالطبع إلى جانب النشاط الدينى والثقافى والرياضى. 

يفتح لنا نصر بما قاله الباب لفهم جماعة الإخوان التى لا تدخل للناس من باب أفكارها السياسية، ولكن من باب المساعدات الاجتماعية، وهو ما كان يمثل عاملًا من عوامل الجذب للجماعة، فيطمئن لها أبناء القرى تأسيسًا على أنها جماعة خير لا تريد إلا المساعدة وتقديم يد العون لمن يحتاج. 

لكن هذا لم يكن الباب الوحيد، يشير نصر إلى باب آخر، عندما يقول: تمثل نشاط الجماعة الدينى فى حض الناس على إقامة الصلوات وإغلاق المقاهى والمحلات العامة وقت صلاة الجمعة، والحرص الشديد على أن تكون صلاة العيدين فى الخلاء وليس فى المساجد، وهذا يفسر إقبال الناس على الاندماج فى أنشطة هذه الجمعية والانخراط فى عضويتها، والتمييز بين هذا النشاط والاختيار السياسى الذى كان يفوز فيه حزب الوفد فى أى انتخابات غير مزورة. 

لم يكن النشاط الدينى الذى تصدره الجماعة لمن تستهدفهم يكشف عن أفكارها أو أهدافها، وهو الخداع الأكبر الذى كانت تمارسه، ما جعل كثيرين يسقطون فى فخها، لكن نصر يشير أيضًا إلى أفخاخ أخرى كانت تنصبها الجماعة لمن تخطط لاصطيادهم، عندما يقول: تركز النشاط الثقافى لشعبة الإخوان المسلمون فى المحاضرات الأسبوعية العامة، وفى مساعدة طلاب المدارس فى المراحل التعليمية المختلفة فى التحصيل واستذكار الدروس، هذا بالإضافة إلى برامج النشاط الرياضى التى كانت تجد تشجيعًا من الكبار، كما تستهوى الشباب والصبية على السواء. 

أين كان الصبى نصر حامد أبوزيد من كل ذلك؟ 

يحدثنا هو عن نفسه، يقول: علاقتى بالإخوان والشعبة كانت مثل علاقة معظم الصبية فى قريتى فى ذلك الوقت، باستثناء ما اشتهرت به من حفظ القرآن الكريم والمداومة على الصلوات فى أوقاتها فى المسجد الكبير، حتى إن الكبار كثيرًا ما كانوا يأتمون بى رغم صغر سنى، وكثيرًا ما كنت أعتلى مئذنة المسجد للأذان للصلاة، فلم تكن الكهرباء قد وصلت إلى الريف بعد. 

رأى نصر ما يمكننا اعتباره كشفًا مختلفًا للإخوان، فهم أبعد ما يكونون عن الروح المصرية فى تفاعلها وتعاطيها مع الدين. 

يقول: أذكر مرة أننى أذنت لصلاة الجمعة بالطريقة التى كان يسميها الإخوان «الأذان الشرعى»، وهو أذان دون تنغيم ودون أدعية أو ابتهالات فى نهايته، ولكن بعض الناس اعترضوا على هذا الأذان فتصدى لهم بعض المتحمسين للأذان الشرعى، وأوشك الأمر أن يتحول إلى مساجلات كلامية عنيفة لولا أن سارع البعض باعتلاء المئذنة مرة أخرى وأذّن بالأذان المعتاد. 

تطورت علاقة نصر حامد أبوزيد بالإخوان عقب الزيارة التى قام بها حسن الهضيبى، مرشد الإخوان، إلى محافظة الغربية- حدثت فى العام ١٩٥١ وكان عمر نصر وقتها ٨ سنوات- حيث عقد الإخوان مؤتمرًا كبيرًا فى «نادى طنطا» للاحتفال بالمرشد الجديد مُثّلت فيه كل شُعب المحافظة تقريبًا. 

يقول نصر: بدأ المؤتمر باستعراض رياضى كبير يتقدمه «الأشبال»- المصطلح الذى كان يطلق على الصبية فى الشُعبة- وعلى رأس الأشبال وفى مقدمة العرض تم اختيارى بحكم وضوح صوتى وارتفاع طبقته، بالإضافة إلى سلامة نطقى، لأكون قائد الهتاف الذى ردده المئات من الرجال والشباب والأشبال «الله أكبر ولله الحمد، الله غايتنا والإسلام ديننا والرسول إمامنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا». 

فرح نصر أبوزيد الطفل عندما رفعه بعضهم حين مرت مقدمة طابور العرض أمام المنصة وأوقفه فى مواجهة مرشد الجماعة الذى صافحه بحفاوة وأهداه بوصلة. 

فى اليوم التالى للعرض ذهب نصر إلى الشُعبة وطلب، بتأثير نشوته مما جرى، من رئيس الشُعبة إبراهيم رجب أن يرقيه من درجة شبل إلى درجة عضو، ورغم صغر سن نصر وبسبب إلحاحه الشديد أصبح اسمه مقيدًا فى سجلات الجماعة. 

لم يكن اسم نصر وحده الذى تم تقييده فى سجلات الجماعة، كان اسم والده أيضًا حامد رزق أبوزيد، لكنه لم يكن عضوًا، فقط كان متبرعًا، وهو ما كان سببًا فى القبض عليهما معًا. 

فى العام ١٩٥٤ بعد محاولة الإخوان اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية بالإسكندرية، تم القبض على كل من ضمتهم كشوف الجماعة فى كل مكان وتم التحقيق معهم، لم يكن هذا الإجراء انتقاميًا، بقدر ما كان احترازيًا، بدليل أن كثيرين ممن تم التحقيق معهم أُطلق سراحهم وكان من بينهم نصر ووالده. 

المشهد كان كاشفًا، يرويه نصر: قُبض علىّ أنا وأبى، لأن اسمينا كانا فى كشوف جماعة الإخوان، ونظر الضابط إلى أبى وقال لى: مَن منكم العضو، أنت ولّا هو؟ قال أبى: لا أنا ولا هو، الأطفال يذهبون إلى الجماعة السنية هذه، فهى أفضل من وجودهم بالشارع، وكنت أدفع اشتراكًا بسيطًا كل شهر كى أساعدهم. 

لم يكن نصر إخوانيًا فى يوم من الأيام، حدد والده شكل علاقته بالجماعة بأنه طفل يقضى وقته معها أفضل من أن يقضيه فى الشارع، وهو ما يمكننا اعتباره كشفًا لزاوية مهمة من زوايا الجماعة الإرهابية، فكثيرون ينضمون إلى الجماعة الإرهابية، لأنها كانت تملأ المجال العام بما تفعله، كان غياب المؤسسات الأخرى، سواء دينية أو اجتماعية هو المنفذ الذى عبرت منه هذه الجماعة وجندت وجعلت من أعضائها قنابل مستعدة للانفجار فى أى وقت فى وجه المجتمع. 

لم يرتبط نصر ارتباطًا نفسيًا أو وجدانيًا بجماعة الإخوان فى أى مرحلة من مراحل حياته، شغفه إلى المعرفة وحده هو الذى دفعه إلى التعرف على أعضائها ومصاحبتهم، لذلك يمكننا اعتبار اقترابه منها معرفيًا ولا أكثر من ذلك. 

وحتى لا نكون متعالين على الواقع المصرى، فإننا لا يمكن أن نتجاهل تأثير الجماعة على نصر، فالتعرض له آثاره، وهى فى النهاية آثار خطيرة على مَن لا يلتفت إليها. 

لقد تسرّب الإخوان إلى المجتمع المصرى، لأن الناس فى مصر لم يتعاملوا معهم على أنهم غرباء- رغم أنهم كانوا كذلك بالفعل- يقول نصر: الإخوان فى بداية الخمسينيات عندما تعرفت عليهم لم نكن نعتبرهم شيئًا خارجيًا لا نعرفه، فقد كان رئيس شُعبة قحافة وأعضاؤها من أهل البلد، وهو ما جعل من السهل عليهم أن يقتربوا منا. 

كانت الجماعة بالنسبة لنصر أبوزيد موضوع دراسة لا أكثر. 

وهو ما يظهر لنا بوضوح من خلال ما كتبه جابر عصفور فى الذكرى الثامنة لرحيل نصر فى العام ٢٠١٨. 

دخل جابر إلى الموضوع مباشرة قال: كنت فى بداية معرفتى بنصر حامد أبوزيد أستغرب إعجابه بالإخوان المسلمين، وقراءة كتب سيد قطب ومحمد قطب وأستاذهما حسن البنا، وفى الوقت نفسه يتزايد إعجابه بأمين الخولى وبكتاباته عن المجددين فى الإسلام، ويتعمق فى فهم مذهبه فى التفسير الأدبى للقرآن. 

وأنا بدورى أستغرب من استغراب جابر عصفور، فما قاله يؤكد أن نصر لم يكن منتميًا للإخوان بأى درجة من الدرجات، ولا حتى درجة الإعجاب التى يشير إليها، فقراءته كتابات الجماعة وإعجابه فى الوقت نفسه بالقراءات المناقضة لها يشير إلى أنه منذ البداية كان مخلصًا للباحث.. والباحث فقط.

كان نصر منتبهًا للجماعة، سار معها وهو طفل وأنصت إليها وهو صبى، لكنه بعد أن أصبح شابًا استيقظ على حقيقتها. 

يقول نصر والرؤية لديه واضحة تمامًا: فكر الإخوان المبكر قبل التحول إلى فكر متشدد كان له تأثير فى نشأتى الفكرية، لكن عندما كبرت وأصبحت لدىّ عقلية نقدية، بدأت أرى بوضوح ما فى هذا الفكر من مبالغة وتطرف. 

وعندما سُئل نصر عن تأثير علاقته بالإخوان على تربيته الفكرية؟ قال: لقد ظللت متمسكًا بما هو عام وإنسانى فى الدين، وأكثر الكتب التى تأثرت بها هو كتاب «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» لسيد قطب، لأنه يضع مصالح البشر فى تفسير الإسلام. 

كان لنشأة نصر أبوزيد والظروف الاجتماعية التى مر بها من فقر وحرمان وعثرات أسلمته للدموع كثيرًا، ولخبرته الحياتية بمآسى الناس ومظالمهم وقد رأى منها الكثير أثناء عمله «فنى لاسلكى»، الدور الأكبر فى إعجابه بكتاب سيد قطب، فالفقراء هم أول مَن يبحثون عن العدالة الاجتماعية. 

لكن بعد أن تقدم نصر فى العمر وتمكن من أدواته فى الفهم أدرك أن ما وضعه سيد قطب فى كتابه لم يكن أكثر من تمويه، يقول هو: كان متن الخطاب لدى سيد قطب ومحتواه العدالة الاجتماعية والسلام العالمى، لكن مع انكسار العهد الذى كان بينه وبين ضباط يوليو أصبح شعار «الإسلام دين ودولة» لديه هو المتن، وانتقلت العدالة الاجتماعية إلى الهامش.

عندما انفجرت قضية نصر حامد أبوزيد فى وجوه الجميع بداية من العام ١٩٩٢، وبدا من كتاباته وتحديدًا فى كتابه «نقد الخطاب الدينى» أن ما لديه يفكك كل الأساطير المؤسسة لجماعة الإخوان، جعلت منه الجماعة خصمًا. 

حاولت فى البداية أن تتخفى خلف مَن هاجموه وينتمون إلى فكرها دون أن يحسبوا تنظيميًا عليها، لكن لم تستطع الجماعة أن تتحكم فى أعصابها، فأعلنت موقفها الواضح من نصر، وهو الموقف الذى كان فيه تكفير واضح له وتحريض كامل على قتله. 

موقف الجماعة من نصر بدا من مقال كتبه محمد مأمون الهضيبى فى جريدة الشعب فى ٣ سبتمبر ١٩٩٦ تحت عنوان «بين محاكمة نصر أبوزيد ومحاكمة الإخوان المسلمين». 

بدأ الهضيبى مقاله بقوله: ليس ثمة شك أن قضية د. نصر أبوزيد التى صدر حكم محكمة النقض فيها بتأييد رجال القانون حكم التفريق بينه وبين زوجته قد شغلت الكثيرين من المثقفين ورجال القانون، كما أنها- بلا شك- شغلت قطاعات ودوائر أوسع وأعمق من ذلك بكثير، خصوصًا بعد أن سلطن عليها وسائل النشر الأضواء، وتناولها عدد من الكتاب ذات اتجاهات معروفة بأساليب مثيرة، بقدر ما حملت من الاستفزاز وتحدى المشاعر. 

وبعد تعريض كامل بكل من دافع عن نصر أبوزيد، يدخل الهضيبى فى صلب القضية، ويسأل: ما الفكر الصحيح الذى مارسه د. نصر أبوزيد وصدر حكم القضاء ليؤكد إدانته وتجريمه؟ وما أنماط الاجتهاد والإبداع التى طرحها، والتى أدانها وأيضًا جرّمها حكم القضاء، وحشد فريق من الناس كل طاقاتهم وإمكاناتهم للدفاع عنها، ومهاجمة حكم القضاء بشأنها، وتصوير الأمر على أنه اغتيال لحرية الفكر واغتيال للإبداع وحق التعبير؟ 

ويجيب الهضيبى عن سؤاله بقوله: استعرضت محكمة النقض فى حيثيات حكمها أنماطًا من فكر واجتهاد د. أبوزيد، كما أكدت حقائق وأصولًا مستمدة من شرع الله وأكدها الدستور التزمت بها ودار حكمها فى إطارها حين قالت: إن الشريعة الإسلامية هى القانون العام الواجب التطبيق فى مسائل الأحوال الشخصية، وعرفت المحكمة الاجتهاد الصحيح كما عرفت الردة حين قالت: إن الردة تكون بقول أو فعل صريح الدلالة على الكفر، والاجتهاد هو بذل الفقيه وسعه لاستنباط الحكم الشرعى من الدليل الشرعى، وما كان من النصوص قطعى الدلالة والثبوت فلا محل للاجتهاد فيه ولا مجال للاجتهاد فى المسائل المعلومة من الدين بالضرورة. 

يتخفى الهضيبى خلف حكم المحكمة، لا يقولها صراحة، لكنه يؤيد الاتجاه العام الذى انحاز إلى تكفير نصر أبوزيد، وأقر حكم التفريق بينه وبين زوجته، بغمز ولمز واضح أنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، دون أن يقول لنا بالضبط ما هو هذا المعلوم، ولا ما هى بالضبط الضرورة. 

ويؤكد الهضيبى اتهامه لنصر بقوله: إنما الاجتهاد فهو فيما لم يرد فيه نص، أو ورد فيه نص غير قطعى الثبوت أو غير قطعى الدلالة، ويعتبر خروجًا عن الإسلام الجهر بأن القرآن من عند غير الله، أو أنه من نظم البشر، أو أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق فى هذا العصر، أو فى تطبيقها تأخر للمسلمين، وأن حال المسلمين لا يصلح إلا بالتخلى عن أحكامها، وإن كان الاعتقاد بذلك لا يعتبر ردة إلا إذا تجسد فى قول أو عمل. 

لم يكتف مأمون الهضيبى بما قاله، بل أورد ما قالته المحكمة عن نصر، فهو بالنسبة لها: نشأ مسلمًا يعمل فى مجتمع مسلم، يعمل أستاذًا للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة القاهرة، ويدرس علوم القرآن، ومثله لا تخفى عليه أحكام الإسلام وأركانه وأصوله، وإذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة لأى مسلم لم ينل حظًا من التعليم أو الثقافة العربية، فإنه يعد مرتدًا عن الإسلام لإظهاره الكفر بعد الإيمان، والردة تثبت بالإقرار أو البينة الشرعية، والإقرار هو الاعتراف من الشخص بطريقة تجعل الأمر فى غير حاجة إلى الإثبات بدليل آخر، وينحسم بها النزاع فيما أقر به وهو حجة على المقر، حيث تصير شهادة المرء على نفسه أقوى من شهادة غيره. 

كان ما قاله مأمون الهضيبى بمثابة الفتوى الإخوانية التى كفّرت بها الجماعة نصر حامد أبوزيد وأحلّت دمه. 

وهنا مفارقة درامية والتى لا بد أن نتأمل من خلالها ما جرى لنصر بين الهضيبى الأب والهضيبى الابن. 

ففى العام ١٩٥١ عندما كان نصر أبوزيد فى استقبال حسن الهضيبى فى نادى طنطا ضمن أشبال الإخوان، رفعه أحدهم على المنصة حتى أصبح فى مواجهة المرشد، ولما رآه الهضيبى الكبير، وكما يقول نصر: سلم علىّ ودعا لى بالهداية وأهدانى بوصلة لأعرف اتجاه الصلاة.

وفى العام ١٩٩٦ يكتب الهضيبى الصغير مقالًا يحل فيه دم نصر بعد تكفيره وإخراجه من الملة بحجة أنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة. 

ولو كان الهضيبى الصغير يعرف ما جرى بين والده الهضيبى الكبير ونصر، فربما تردد فيما كتبه، لكن إخوانيته جعلته يعتقد- فيما يبدو- أن الله لم يقبل دعاء والده فى نصر، وأن الطفل الصغير عندما كبر ضل، رغم أن الضال فى هذه المفارقة كان هو مأمون الهضيبى نفسه ولا أحد غيره. 

بعد رحلته الفكرية الطويلة وصل نصر أبوزيد إلى قناعة لخص من خلالها سر جماعة الإخوان وسر مأساتها التى تتجدد، يقول: لم يخش الإخوان المسلمون شيئًا أكثر من تحديث مصر، رأوا فيه قضاء على الدين فى المجتمع المصرى، شعرت الجماعة بالعزلة وعدم القدرة على المشاركة فى تطور مصر، وشعر أعضاؤها بأن هويتهم كمسلمين مصريين كانت على المحك. 

غدًا.. نصر أبوزيد يحاكم سيد قطب