رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحدها من الشمال.....!

سهير السمان - اليمن
سهير السمان - اليمن

السماء مظلمة، يخترقها لمعان الرصاص، والدخان يتصاعد بكثافة، وروائح الحرائق تختلط فى الأجواء. الدماء التى تخرج منى حارة، بينما الأيدى التى تجرنى على الأرض تحاول حملى.

صوت أحدهم يقول بقربى:

- ارفعوه.. هل بقى مصابون فى الخارج؟

- يجيب آخر: نعم.. سيحملونهم إلى هنا.

أشعر بجسدى يهتز على أكتافهم وهم يسيرون بسرعة، رائحة التراب المتصاعدة من ملابس الجنود الذين يحملوننى اختلطت برائحة الدماء، وصوت بوابة كبيرة تُفتح، همسات وأصوات تتداخل بين خطواتهم السريعة. ألتقط وجوه زملائى من الإضاءات الخفيفة الصادرة من المصابيح الصغيرة المعلقة على رءوسهم.. يقول أحدهم: 

- الانفجارات مستمرة فى الجهة الأخرى من المعسكر.

- إنه مخزن الذخائر الذى يشتعل، ضربتان جويتان قويتان، وكأنهم يعلمون أننا عدنا من الجبهة إلى المعسكر، لم نتوقع أن يضرب مرة أخرى بعد أن ضرب قبل أسبوع. 

أرى بصعوبة فى هذا الظلام، ولكنى لمحت السارية المتشبثة بالعلم الذى بهتت ألوانه. نعم.. هذه المدرسة التى اتخذناها ثكنة عسكرية، كانت يومًا ما مدرستى، وهذا العلم كان يرفرف فى طابورنا الصباحى؛ حين تُعزف الموسيقى الوطنية لنتجه مع إيقاعها إلى فصولنا، طغى العزف الآن فى أذنى على أصوات الانفجارات التى بدأت بالخفوت، وهم يجتازون بى ممرات المبنى، ارتجف جسدى حين مررنا من أمام الفصول الدراسية، حاولت أن أجد آخر فصل لى، كان مثبتًا على بابه لوحة صغيرة مستطيلة بيضاء، مكتوب عليها ٦أ، ولكن معظم تلك اللوحات قد سقطت من على أبوابها.

وكان بين كل غرفة دراسية وأخرى، صورة لأحد القادة التاريخيين، نقف أمامها، لنستذكر ما قيل عنهم فى دروس التاريخ.

لقد خلدتهم المعارك والحروب، ولكننى لا أعتقد أن تكون صورتى يومًا ما هنا على جدار المدرسة بجانبهم، وأصبح أحد الأبطال الذين يذكرهم التاريخ!

لماذا أهتم بهذه التفاصيل؟ ما أرجوه الآن هو أن تعود لى سنوات دراستى التى أحرقتها نار الحرب؟ 

أدخلونى إحدى الغرف، فسرقتِ الأضواء البسيطة الصادرة من المصابيح اليدوية؛ مساحة من ذكريات هذا المكان، فروائح الملفات التى تكدست وملأها التراب، أعادت لى ذكرى يوم أن وقفت هنا لتسليم ملفى الخاص بالشهادات الابتدائية، كان ملفًا أخضر، يضم سنوات دراساتى الست، يومها كنت سعيدًا أننى انتقلت للإعدادية التى لم أكملها. 

تتحرك الأضواء المعلقة على رءوس من حملونى، لتنير لى زوايا المكان، فهناك فى زاوية بعيدة أكوام من الكراسى وخريطة اليمن التى لا تزال متشبثة بالجدار، كم كنت أعانى من حفظ الخرائط، ولكنها الآن انطبعت فى رأسى أخيرًا بعد أن خضت الكثير من المعارك فى جبهات عديدة. 

وضعونى على طاولة، أحسست ببرودتها تسرى فى جسدى، الضوء من جانبى الأيسر يتجه نحو سبورة الفصل الذى انهار جزء منها. 

صوت يتشنج فوق رأسى وهو يقول:

- أسرع.. حاول أن تضغط على جرحه يجب أن نوقف النزيف.

- وماذا عن بقية الجرحى؟

- فى الأسفل، ننتظر وصول طاقم الإسعاف الطبى لمحاولة إنقاذهم، فالبعض إصابته خطيرة.

يقف الرجل أمامى مغطيًا بجسده جزءًا من السبورة التى ما زالت تحتفظ ببقايا كلمات.. وطن.. جمهورية.. ثورة..!

هل هذه هى السبورة التى وقفت ذات يوم أمامها لأكتب الإجابة المطلوبة منى. لحظة محاولتى أن أتذكر الإجابة بعد أن كتبت أول كلمتين منها: «يحدها من الشمال..........!

وصوت المعلم يكرر السؤال.. ها.. ماذا يحدها من الشمال؟ 

لكنى لم أعرف الإجابة حينها. 

غمامة سوداء بدأت تغطى عينىّ، مثل غمامة الإحراج التى انتابتنى لعدم معرفتى الإجابة، وبدأت الأصوات من حولى تخفت تدريجيًا وبردت الدماء فى جسدى، وأنا أجيب معلمى، يحدها من الشمال....!.