رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إجازة مع الأستاذ

كتب الأستاذ نجيب محفوظ عمله العظيم «أصداء السيرة الذاتية» مطلع تسعينيات القرن الماضى ونشره على حلقات فى أهرام الجمعة، أحبه الشعراء أكثر من الروائيين والنقاد، وحين صدر فى كتاب احتفل معرض القاهرة الدولى بكتاب العقيد معمر القذافى، وتم تجاهل الأصداء، أيامها اتفقت مع الصديق الفنان صبرى فواز على استلهام الكتاب فى عرض مسرحى، رحب الراحل الكبير الأستاذ سامى خشبة بالفكرة، وكان رئيسًا لمسرح الدولة، كتبت النص وأخرجه باقتدار فواز، كان الأستاذ نجيب يتعافى من الطعنة الغادرة بكتابة أحلام فترة النقاهة، والتى اعتبرتها امتدادًا للأصداء، وكان ينشر ما يكتب فى مجلة «نصف الدنيا»، وكنت أيامها أجد صعوبة فى الجلوس إلى الأستاذ، كما كان يحدث قبل الجريمة الإرهابية، فى الأيام الفائتة عُدت لقراءة العملين معًا.

القراءة التى جعلتنى أستعيد زمنًا وبشرًا وحكايات جانبية وكتابات ومعارك، كنت مفتونًا بما أقرأ كما حدث معى الآن، لأننى شعرت بأننى أمام كتابات فتى ما زال يبحث عن طريقة ما يلتقط ما يدخره من أشواق فى جمل تشير ولا تفصح‏، كتابة تصيب الهدف ببساطة ومن أقصر الطرق‏، كتابة أقرب إلى خربشات الطفولة وتعاويذ الدراويش، كتابة لا تبحث عن بناء كلاسيكى سبق أن أسس له الأستاذ، ولم تكن تدريبًا على الكتابة أو «كناسة العطار» كما قال الأستاذ أيامها، ولكنها أشبه ما تكون إلى كناسة صائغ الذهب الذى يقوم بحرقها فى نهاية العام‏، ليخرج منها الذهب الذى يتحوّل إلى «صيغة» لأفراح الناس ورغبتهم العارمة فى الخلود‏.

أثبت محفوظ من خلال أحلام فترة النقاهة رغم معاناته، أنه قادر على ابتكار شكل جديد من الممكن أن يستوعب تجارب إنسانية مختلفة، فى الأصداء أنت أمام البداهة التى اختزلت حدائق الشجن والخبرة وحب الحياة والإيمان فى كلمات قليلة‏، يجلس خلفها صائغ مصرى ذو خبرة قديمة فى اختراع الأشكال والحكايات، صائغ مشغول بالحياة وعازف عنها، بدأ طفلًا فى طريقه إلى المدرسة وعندما وجدها مغلقة بسبب ثورة ١٩١٩‏ تمنى أن تظل مغلقة إلى الأبد‏، وهو الذى وجد نفسه طفلًا حائرًا فى الطريق‏، وفى يده مليم، ولكنه نسى تمامًا ما كلّفته أمه بشرائه، حاول أن يتذكر ففشل ولكن كان من المؤكد أنما خرج لشرائه لا يساوى أكثر من مليم‏!!.

فى الأصداء لم يسرف هذا الطفل فى الكلام لأنه حافظ على إيقاع خطواته فى الدنيا الشريرة الفاتنة، الرحابة التى تملأ أصداء السيرة الذاتية تدفع إلى الدهشة، فأنت أمام روح فضفاضة تلتمس الأعذار وتصفح عن المخطئين بمحبة لا توجد إلا عند الدرجات الأعلى عند المتصوفة‏،‏ ها هو يقترب من امرأة تقول لدرويش: يا سيدنا إنى أرملة أعيش مع شقيقتى مستورة والحمد لله‏، ولكنى أخاف الفتنة.

فقال لها «أدى الفرائض»، فقالت بصدق لا تفوتنى فريضة، وأضافت وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة، فقال لن يمسك الشيطان، فقالت ولكننى أخاف الفتنة.

فى الأصداء استطاع محفوظ أن ينحت شخصية فى غاية البهاء هى شخصية عبدربه التائه، الذى اختزل كل خبرات الدنيا فى إجاباته الصاعقة‏، سأله: ما علامة الكفر؟

فأجاب دون تردد: الضجر‏.

وسأله‏:‏ متى تصلح حال البلد؟

فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.

وسأله: كيف تنتهى المحنة التى نعانيها؟ فأجاب: إن خرجنا سالمين فهى الرحمة‏، ‏ وإن خرجنا هالكين فهو العدل.

وقال للشيخ عبدربه التائه: سمعت قومًا يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا؟ فقال: حب الدنيا آية من آيات الشكر،‏‏ ودليل ولع بكل جميل‏ وعلامة من علامات الصبر‏.‏

شخصية عبدربه التائه فى حاجة إلى إعادة اكتشاف، استخدمها محفوظ بطريقة تختلف عن عاشور الناجى فى الحرافيش، والراوى فى قلب الليل، والجبلاوى فى أولاد حارتنا‏، ‏ شخصية فريدة، جاءت من عالم غير مادى، لتفصح عن إيمان عريق كأننا أمام أسطورة مصرية بنى المصريون لها الأضرحة والمقامات لتكون مرجعًا للباحثين عن إجابة ما لهذه الحياة، محفوظ قال على لسان شيخه الذى اخترعه من بين ما قال: الحمد لله الذى أنقذنا وجوده من العبث فى الدنيا ومن الفناء فى الآخرة، وخفقة واحدة من قلب عاشق جديرة بطرد مائة من رواسب الأحزان.