رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والتوازن الدولى «19»


هكذا يشير الواقع إلى أن الإدارة الأمريكية تعـيش بعـيدا عن واقع التحولات التى بـدأت تطرأ عـلى بنيان النظام الدولى، والتى تشير إلى تراجع النفوذ الأمريكى فى مقابل تصاعـد الدور الروسى والصينى، خاصة فى محيط النسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط،

تناولت فى المقالات السابقة محتـوى مسارات المنظور الجيوبوليتيكى للولايات المتحدة فكان المسار الأول هو إدراكها بنشأة حالة استقطاب وحرب باردة ستؤدى إلى بناء تحالفات وتوازنات جديدة، لذلك تسعـى إلى بناء تحالف غـير معـلن يضم قـوى غـير عربية «تركيا وإيران وإسرائيل وإثيوبيا» ودولة قطر العـربية حتى تضفى عليه صفة التحالف الإقليمى، وتمثل الثانى فى حتمية وجودها فى منطقة الشرق الأوسط التى أصبحت لا غـنى عـنها فى بناء التحالفات والتوازنات، أما الثالث فيتمثل فى ضرورة تفكيك الدول العـربية المركزية باعـتبارها المكون الرئيسى للمنطقة وإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير الذى جعـلته ينطبق على العالم الإسلامى، أما الرابع فيكمن فى ضرورة عـرقـلة حركية القوى العالمية المنافسة «روسيا والصين» حيث تناولت موقفهما فى ضوءالأزمة الأوكرانية، وانتهيت إلى أن أوكرانيا لا يمكنها مواجهة روسيا منفردة فقامت بسحب قواتها من القرم، كما أن حلف الناتو لن يواجه روسيا ويغامر بحرب عالمية جديدة، وبذلك تبقى الإجابة عن التساؤل الأخير وهو هل يمكن أن تتعـقـل أطراف الأزمة وتتوصل إلى بديـل مناسب يجنب العالم ويلات حرب عالمية جديدة؟

وللإجابة عن هذا السؤال يتعـين تحليل البعـد القيمى للطرفين والذى يتكون من ثلاثة عـناصر رئيسية «الإدراك ـ الرضا ـ القدرة على الفعـل» فالواقع يشير إلى أن روسيا أدركت عمق التحولات والتغـيـرات التى أحدثتها ثورة 30 يونيو فى بنيان النظام الإقليمى، فعـندما أسقطت ثورة 30 يونيو نظام حكم جماعة الإخوان دون رجعة، أسقطت معه المشروع الأمريكى بتمكين تيار الإسلام السياسى من حكم دول المنطقة، حيث يتمحور مشروع إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير على الاتفاقات والتفاهمات التى عـقدتها الولايات المتحدة مع هذ التيار، وهو الأمر الذى لم تدركه الولايات المتحدة حتى الآن، ومن ثم برز التناقض فى مواقفها وردود أفعالها، فبدت وكأنها فقدت حاسة الاتجاه، واستمرت فى دعم الجماعة الإرهابية أملا فى عـودتها، وتبنت سياسات اتسمت بازدواجية المعايير، فبالرغم من الحشود التى خرجت تلقائيا تعـبر عن سخطها لممارسات نظام حكم الجماعة الإرهابية والتى لم تشهـدها البشرية من قبل، إلا أنها لم تعـترف بتفاعلات هذه الأحداث على أنها ثورة شعـبية، لكنها اعترفت بتفاعلات أحداث أوكرانيا التى أطاحت برئيس منتخب بأنها ثورة شعـبية، واتخذت هى وحلفاؤها موقفا داعـما لأوكرانيا، وفى الوقت الذى اعـترفت فيه بنتائج استفتاء جنوب السودان وانفصال جنوبه عن شماله بالرغم من مخالفته للقانون الدولى حيث لم يكن السودان محتلا لجنوبه، اعـترفت بالاستفتاء الذى تم فى شبه جزيرة القرم بالرغـم من أن هذا الاستفتاء قد عكس الإرادة السياسيـة الحـقـيـقـيـة لشعـب شبه جزيـرة القـرم، والتى كانت جـزءا أصـيـلا من أراضى جمهوريــة روسيـــا «السوفييتية»، حيث قام خروشوف - رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتى ذو الأصل الأوكرانى- بانتزاعها عام 1954 وضمّها إلى أوكرانيا «السوفيتية» ولذلك يمكن القول بأن ما أقدمت عليه روسيا وشعـب القرم ما هـو إلاُ تصحيح لخطأ غـير دستورى، كما أدركت روسيا أن الهدف الرئيسى للولايات المتحدة من دعم أوكرانيا ، هو نقل مسرح التنافس والصراع إلى الأراضى الروسية، حتى تتفرغ لإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير وفقا لمنظورها الجيوبوليتيكى، فاتخذت سياسة أكثر حمقا اعـتمدت عـلى إيقاف المساعـدات العسكرية والاقتصادية عن مصر، وحجبت صفقات السلاح الرئيسية خاصة طائرات الأباتشى الضرورية لمكافحة الإرهاب، الأمر الذى يؤكد أنها تعـمدت هى وحلفاؤها تصدير الإرهاب إلى مصر وتوطينه وتمويله والتخطيط لعـملياتـه الإرهابية.

هكذا يشير الواقع إلى أن الإدارة الأمريكية تعـيش بعـيدا عن واقع التحولات التى بـدأت تطرأ عـلى بنيان النظام الدولى، والتى تشير إلى تراجع النفوذ الأمريكى فى مقابل تصاعـد الدور الروسى والصينى، خاصة فى محيط النسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط، إذ يتجلى هذا التراجع فى تحدى روسيا للإرادة الأمريكية عـندما منحت حق اللجوء السياسى لإدوارد سنودن -الخبير الأمنى لأنظمة المراقبة الرقمية فى وكالة الأمن القومى الأمريكى- وعـندما قامت روسيا بفرض إرادتها فى القضية السورية، وعـندما تراجعـت الولايات المتحدة وحلفاؤها فعـقدوا مع إيران التسوية الإيرانية بشأن القضية النووية، وكان التحدى الأكبر هـو الفتح الاستراتيجى والتعـبـوى لأسطول المحيط الهادى الروسى لأول مرة فى مياه البحر المتوسط الدافئة، فإذا تمكنت روسيا من فرض إرادتها فى أحداث أوكرانيا وهو ما نتوقعه، فسيكون ذلك إيـذانا لبدء نظام عالمى جديـد تتعـدد فيه الأقطاب.. وللحديث بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية- جامعة بورسعيد