رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثـورة 30 يونـيـو.. والتـوازن الدولى « 16»


أوكرانيا ورثت عن الاتحاد السوفييتى قوة عسكرية قوامها 780 ألف جندى مزودة بثالث أكبر ترسانة نووية فى العالم، لكنها تخلت عنها لصالح روسيا، ووقعـت على المعاهـدة الأوروبية بشأن تخفيض قوتها التقليدية إلى 300 ألف جندى، وبالرغم من ذلك فما زالت تمثل ثانى أكبر قوة عسكرية فى أوروبا بعـد روسيا،

تناولت فى المقالات السابقة المحتوى الفكرى لمسارات المنظور الجيوبوليتيكى للولايات المتحدة ، فكان محتوى المسار الأول هو إدراكها بنشأة حالة استقطاب ستؤدى إلى بناء تحالفات وتحالفات مضادة وربما إلى هدم توازنات وبناء توازنات جديدة، وهو ما يبرر سعـيها الحثيث لبناء تحالف يضم قـوى غـير عربية وقطر العـربية حتى تضفى عـليه صفة التحالف الإقليمى، وكان محتوى المسار الثانى هو حتمية وجودها فى منطقة الشرق الأوسط التى أصبحت لا غـنى عنها فى بناء التحالفات والتوازنات، فحصلت أولا على تسهـيلات فى أهم مـوانيها، واحتلت ثانيا أفغانستان ثم العـراق، وأنشأت ثالثا مخازن للأسلحة الثقيلة فى إسرائيل وتركيا والأردن، وتمثل محتوى المسار الثالث فى حتمية تفكيك الدول العـربية المركزية باعـتبارها المكون الرئيسى للمنطقة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير، واليوم أتناول محتوى المسار الرابع الذى يتمثل فى ضرورة شل حركية القوى العالمية المنافسة لها «روسيا والصين».

ولتحقيق هذا المسار، استغـلت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى الغـرب تفاعلات الأحداث الأوكرانية، فأثارت ردود أفعال عـنيفة ضد روسيا، حيث ادعـت على غير الحقيقة أن تدخلها العسكرى فى أوكرانيا يشكل تهديدا للأمن والسلام الدوليين، وهو ما أدركته روسيا حيث تعـتبـرهذه الأحداث ليس فقط من أهم قضايا الساعة، بل أهمها على الإطلاق لأنها ترتبط مباشرة بأمنها القومى، فقد تؤدى سيطرة أوكرانيا والغـرب على شبه جزيرة القرم إلى شل حركة أسطول البحر الأسود الروسى، إذ يمثل البحر الأسود قاعـدة التمركز الرئيسية والوحيدة للأسطول الروسى، كما يمثل المنفذ الوحيد لقوتها البحرية للوصول إلى مياه البحر المتوسط ومن ثم إلى مياه محيطات العالم ، وهو حلم روسيا الدائم الذى تسعى إلى تحقيقه.

وقد بدأت الولايات المتحدة والغرب فى تصعـيد ردود أفعالها بعـد أن وافق المجلس الأعـلى لبرلمان الاتحاد الروسى «الدوما» على طلب بوتين باستخدام القوة المسلحة خارج حدود روسيا لمواجهة الوضع الاستثنائى فى أوكرانيا، لحماية المواطنين الروس من التعـسف والجور الذى تمارسه السلطات الأكرانية الجديدة، واستعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه فى أوكرانيا، وقد تقدم بوتين بهذا الطلب بناء على دعـوة رئيس حكومة القرم للمساعـدة فى استعادة الاستقرار والهدوء إلى شبه جزيرة القرم، وبناء على احتشاد آلاف المواطنين الذين يرفعـون أعلام روسيا للمطالبة بضم القرم إلى روسيا، الأمر الذى أدى إلى أن يطلب رئيس وزراء أوكرانيا من الولايات المتحدة والغرب المساعـدة فى التصدى لاعـتـداءات القوات الروسية على الأراضى الأوكرانية خاصة بعـد استيلائها على برلمان وحكومة القرم، فقام أوباما «القائـد السياسى الأكثر فشلا فى إدارة شئون أقوى دولة فى العالم» بتحذير روسيا بأن تدخلها العسكرى فى أوكرانيا سيكون له ثمن فادح، وأكد تمسك بلاده باحترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، فهل يمكن أن تتحول شبه جزيـرة القرم إلى مسرح للمواجهة بين روسيا وأوكرانيا بمساعـدة الناتو، أم تتمكن روسيا من فرض إرادتها بضم القرم إليها ويكون ذلك إيـذانا لنشأة نظام عالمى جديد؟ وللإجابة عـلى ذلك يتعـين أولا تحليل الموقف فى شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.

يشير الواقع إلى انفصال شبه جزيرة القرم عـن أوكرانيا، جغـرافـيا وتاريخيا وعرقـيا وسياسيا، فبالرغم من التحامها بشريط ضيق بالظهير البرى لأوكرانيا، إلاَ أن شرقها يكاد يلتحم بالأراضى الروسية، أغلبية سكانها روس ذوى أصول ترجع إلى السلاف الشرقيين، وأقلية تبدى ولاءها لروسيا، لغـتهم الرسمية الأوكرانية، لكنهم يتحدثون ويتعاملون بالروسية، ترفع الأعلام الروسية على مؤسساتها ومبانيها الحكومية، استقلت بتسوية منحتها حكما ذاتيا فى عام 1992 واحتفظت لروسيا بقاعدة بحرية ينتهى العمل بها عام 2017، مُدت 25 عاما لتنتهى عام 1942مقابل قيام روسيا بإمداد أوكرانيا بالغاز الطبيعى بأسعار تفضيلية.

ويشير الواقع نفسه إلى أن أوكرانيا ورثت عن الاتحاد السوفييتى قوة عسكرية قوامها 780 ألف جندى مزودة بثالث أكبر ترسانة نووية فى العالم، لكنها تخلت عنها لصالح روسيا، ووقعـت على المعاهـدة الأوروبية بشأن تخفيض قوتها التقليدية إلى 300 ألف جندى، وبالرغم من ذلك فما زالت تمثل ثانى أكبر قوة عسكرية فى أوروبا بعـد روسيا، تحتفظ بعلاقات تعاونية مع حلف الناتو منذ 2002 حيث أُعلن فى قمة بوخارست 2008 أن أوكرانيا يمكنها أن تصبح عـضواً فى حلف الناتو وقت ما تشاء، ومتى وافقت على معايير الانضمام، فهل يمكنها مواجهة روسيا؟ سأتناول ذلك الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد