رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشتات لحظة الخطر


لم تشهد مصر على مدى تاريخها سيركاً تبدلت فيه المواقف والأزياء تبعا للمصالح وتغيرت فيه الأدوار والآراء كالسيرك الفكرى الذى شهدته فى السنوات الثلاث الماضية. وستبين أى مراجعة سريعة لأرشيف الصحافة خلال تلك السنوات أى تحولات مذهلة وبراقة قام بها جناح ضخم من الأنتلجنسيا من عشرات المواقف إلى عشرات المواقف الأخرى المناقضة.

حاول أن تجد كاتبا واحدا لازمته فكرة لا تفارقه تقوده عبر المنعطفات إلى حقيقة يؤمن بها. حاول أن تجد قطرة نور بيضاء سابحة بثبات إلى الناس. ليس سطح النهر المتدفق بعلب الصفيح وقش الخداع وعكارة العظمة والمكر هو ما يثير الأسف بل شتات النور! حين يكون كل منا وحده يحتكم إلى ضميره لكننا معا عاجزون عن رؤية الهدف وشق الطريق المشترك. فى ثورة 1919 كانت ثمة أهداف قومية اجتمع عليها النضال المصرى: الاستقلال والدستور. فى ثورة 1952 التف الناس حول التحرر الوطنى والتصنيع والتنمية. الان، إما أنه ليس ثمة شىء يوحدنا، أو أن القدر – كما فى رواية العمى لساراماجو – حرمنا من البصر ورؤية القاسم المشترك. هناك سؤالان مضمران، منشوران، واضحان، مبهمان: من الذى نحاربه ؟ ولأجل ماذا نحارب؟ لكن ما من إجابة مشتركة على السؤالين، ولا نصف أو ربع أو ثمن إجابة مشتركة. إلا أننا نواصل سيرنا إلى الأمام، بنادقنا على أكتافنا. أقدامنا مغروزة فى شهدائنا. نمضى قدما، بأمل أن تشتعل من سيرنا فكرة فنرى عدونا وندرك لأجل ماذا نحارب؟ المأساة ليست فى الزيف والكذب، بل فى الحقيقة والصدق. المؤلم ليس احتشاد القتامة فى السماء، وليس مواقف الذين يدعون أنهم المتحدثون باسم الثورة، ولا الناطقون بما امتلأت به جيوبهم من تمويل أجنبى، ولا قادة الأحزاب الديكورية التى تمارس غسيل الأفكار، ولا الذين يفردون قلاعهم فى ريح كل سلطة، المؤلم شتات النور الذى يسبح بثبات نحو آمال الناس فى الطعام والعلاج والتعليم والعمل والتنمية والتصنيع والسكن والثقافة. ذلك النور الذى يسعه إذا اندلع أن يحرق بسطوعه عتمة الضياع.

فى لحظة الخطر يعلو الشعور بأولوية وجود الجماعة على أى اعتبار. يسود ما يعرف بـ«التفكير الجمعى» عندما تتطلب حياة الجماعة نوعا من التوافق. ومع أننا نمر بلحظة دقيقة كالمشى على حافة سكين إلا أننا لا نرى أثرا للشعور بخطورة الوضع فى التفكير الجمعى. وإذا نقلنا مفهوم «التفكير الجمعى» من مجال علم النفس إلى السياسة سنجد أن المقصود هو برنامج يجمع القوى الوطنية فى مواجهة الخطر. لكن ما من تصور أو مقترح يعكس روح الجماعة، بل إننا ننزلق إلى «اضطراب التفكير الجمعى» وهو مصطلح صادفته عند أستاذة علم النفس د. هناء سليمان، ووجدت فيه أفضل تعبير عن وضعنا. نحن مهددون بجرجرتنا إلى المسار السورى، وبالإرهاب الدينى. وبعودة حكم الفلول بأقنعة جديدة، وبدولة بوليسية، وبانفجار الأزمة الاقتصادية، وبالرغم من ذلك فإن شيئا لا يستنفر فينا التوافق! لكن أيمكن أن نصل إلى تفكير جمعى وتوافق إذا كنا لا نرى من نحاربه؟ ولا ندرى من أجل ماذا نحارب؟ ونواصل سيرنا فرادى ببسالة محكوم عليها بالموت، بأمل أن تشتعل الفكرة من خطونا فيلوح طريق؟

■ كاتب وباحث