رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثـورة 30 يونـيـو والتـوازن الدولى «الجزء العاشر»


قد لجأت الولايات المتحدة إلى هذه الصورة من وجودها حتى توفر الجهد والوقت وتكاليف النقل الاستراتيجى الباهظة، ولكى تعـمل عـلى اختلال التوازن الاستراتيجى لصالح تركيا وإسرائيل، ولكى تعمل على زيادة مبيعاتها من السلاح فى ظل سباق التسلح المحموم فى المنطقة.

اشتملت سلسلة المقالات السابقة بعض التساؤلات التى تتعلق بسعى الولايات المتحدة لبناء تحالف يضم قوى غـير عـربية «إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا»، وضم دول عـربية إليه كى تضفى عـليه صفة التحالف الإقليمى، وذكرت إنه ينبغى تحليل مسارات المنظور الجيوبوليتيكى للولايات المتحدة لكى نؤسس للإجابة عن هذه التساؤلات، وقمت بتحليل المسار الأول الذى تمثل فى إدراكها الكامل بالتحولات التى طرأت عـلى بنيان النظام الدولى التى تؤسس لنشأة نظام جديد متعـدد الأقطاب وإن لم تتبلور ملامحه بعـد، وقد تنشأ معه بالضرورة حالة من الاستقطاب ربما تقود إلى بناء تحالفات وتحالفات مضادة، وهدم توازنات قائمة وبناء توازنات جديدة، وفى مقال اليوم أحاول تحليل المسار الثانى الذى يتمثل فى ضرورة تكثيف وجودها فى منطقة الشرق الأوسط للسيطرة عليها إن طوعا أو كرها، حيث تُعـد من أكثر المناطق أهمية لبناء الاستراتيجيات العالمية بحكم موقعها وثرواتها ومتناقضاتها، وهو ما يجعلها أكثر عـرضة للاستقطاب.

وقد بدأ تزايد اهـتمام الولايات المتحدة بالمنطقة فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العـشرين، عـندما نشر ألفريد ماهان نظريته الجيوبوليتيكية البحرية كإحدى نظريات السيطرة على العالم فى كتابه Influence of Sea Power on History، حيث أوصى بضرورة تقليص نفوذ الدول الاستعـمارية ثم إبعادها نهائيا عن المنطقة، على أن تقوم الولايات المتحدة بملء الفراغ الناتج عن ذلك.

وقامت الولايات المتحدة بتنويع أشكال وصور وجودها، فبدأت أولا بالحصول على التسهـيلات فى مـوانئ الـمحـيـط الهـندى فى كـيـنـيا «ممباسا»، وباكستان «كراتشى»، والبحر المتوسط فى لبنان «بيروت» والبحر الأحمر فى السودان «بورسودان »، والسعـوديـة «جـدة»، والخليج العربى فى عـمان «صلالة – مسقـط»، والبحـريـن «المنامة» وغـيـرها، ثم قامت ثانيا بغـزو واحتلال أفغانستان ثم العـراق، ويشير الواقع إلى عدم مغادرتها العـراق فى ظل التحولات التى طرأت على بنيان النظام الدولى، وهو النظام الذى ظلت تسعـى إلى فرضه لمدة تقترب من قرن، وللتدليل على ذلك هو قيامها بتشييد مدينة فى أفضل منطقة فى بغداد على مساحة حوالى 104 هكتارات «أكثر من مليون متر مكعب» بأكثر من مليار دولار، تضم السكن ومراكز العلاج والأسواق ووسائل الترفيه والملاعـب، بالإضافة إلى مولدات الطاقة وغـيرها من البنى التحتية الأساسية، حتى يمكَنها البقاء مستقلة عن العاصمة لعـدة أعـوام، فهل يمكن لإنسان أن يتصور بناء هذه المدينة من أجل تمركز سفارتها فى بغـداد، على مساحة أكبر من سفارتها فى بكين عـشر مرات، وأكبر من مجمع الأمم المتحدة فى نيويورك ست مرات، وبذلك تكون هذه السفارة الأسطورية هى أضخم سفارة شُيدت فى تاريخ البشرية، إذ تحتوى على أكثر من 22 مبنى ضخماً، ويديرها أكثر من 1100 موظف، وتتكلف إدارتها أكثر من مليار دولار سنويا، وعليه فلن تغادر الولايات المتحدة العـراق أبـدا.

ثم قامت ثالثا باستخدام أراضى الدول الحليفة «إسرائيل وتركيا» والدول الصديقة «الأردن» كمخزن طوارئ للأسلحة الثقيلة، إذ يمكن ملاحظة أنها قامت بتخزين أسلحة ومعـدات ثقيلة فى تركيا وإسرائيل، كانت قـد شاركت بها فى حرب الخليج الثانية قُدرت بنحو4 مليارات دولار آنذاك، وسمحت لهما باستخدامها عـند التصعـيد للحدود القصوى للصراع مع أى دولة من دول المنطقة تهدد الأمن القومى لأى منهما، كما استخدمت الأردن فى تخزين بطاريات صواريخ الباتريوت والطائرات إف 16 التى شاركت بها فى مناورة «الأسد المتأهَب» فى عام 2012، ولا أحد يعـلم على وجه اليقين ما إذا كانت الولايات المتحدة قد سمحت للأردن بما سمحت به لكل من تركيا وإسرائيل عـند تهديد أمنه من إسرائيل أم لم تسمح له بذلك، وقد لجأت الولايات المتحدة إلى هذه الصورة من وجودها حتى توفر الجهد والوقت وتكاليف النقل الاستراتيجى الباهظة، ولكى تعـمل عـلى اختلال التوازن الاستراتيجى لصالح تركيا وإسرائيل، ولكى تعمل على زيادة مبيعاتها من السلاح فى ظل سباق التسلح المحموم فى المنطقة.

هذه هى الصور الرئيسية الثلاث لوجود الولايات المتحدة والغـرب فى المنطقة التى تزداد أهمية يوما بعـد يوم فى بناء الاستراتيجيات العالمية والإقليمية، ويبقى السؤال الأخير الذى سنتناوله فى المقال المقبل بإذن الله، هل تسعى الولايات المتحدة إلى ضم دول عربية حتى تضفى على هذا التحالف صفة الإقليمية ومن هى الدولة الأقرب للضم؟

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد