رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سركيس» فى حمى حكومة مصر العادلة


يطيب للكثيرين، وأنا منهم، الاقتراب والتعرف على تفاصيل فترات من التاريخ عبر شهادات أهل الرأى والفكر والجورنالجية، وما يوثقونه من أحداث وحكاوى، وما يعترض حياتهم من مواقف ضاغطة أو مفرحة يمكن الاستدلال منها على أحوال البلاد والعباد فى زمان ما.
وهنا نقترب من الكاتب الصحفى «سليم شاهين سركيس» الجورنالجى الحريف، من أهل بيروت، الذى نال شهرته بمصر، وهو من كانوا يكتبون عنه حول خصوصية موهبته فى الإنشاء وإجادة النكتة فى جريدة «لسان الحال» البيروتية.
وبعد أن رحل إلى باريس ولندرة فارًا من عسف بعض الحكام، وعاد إلى الشرق، أنشأ فى مصر جريدة «المشير» ومجلة «مرآة الحسناء»، وكانت له فى «المؤيد» و«الأهرام» جولات وإبداعات مهنية، واستمرت إلى آخر حياته.
له من الكتب «الندى الرطيب فى الغزل والنسيب» و«غرائب المكتوبجى» و«تحت رايتين»، توفى فى القاهرة، غير أن أكثر كتبه إثارة للجدل كان كتابه «غرائب المكتوبجى» والذى انتقد فيه وبشدة سياسة المراقب العثمانى على الصحف والكتب.
ويرى «سركيس» أن أهم النكبات التى عانى منها أن مولده فى بيروت، فصار من رعايا الحكومة العثمانية، وهذه أنكى المصائب وأُولاها فى تصوره. أما النكبة الثانية فكانت فى إرساله إلى المدارس، حيث تلقى تعليمه، فأصبح فى علمه مستحقًا أن يشفق عليه الجاهل، والنكبة الثالثة تعلمه اللغة الإنكليزية بنوعٍ خاص، فأصبح، كما يقول، لا يقوى على احتمال الخمول وهو يقرأ جرائد أوروبا ويدهش بمبادئ التقدم والحرية.
والنكبة الرابعة عندما عُهد إليه بتحرير جريدة «لسان الحال»، فلبث فى ذلك العمل مدة ٨ سنوات. وأمسك زمام «الرأى العام» كل تلك المدة، إلا أنه لم يتمكن من حريته فى إدارته، وأدركت من مطالعة الصحف الأوروبية منزلة الحرية ومقام الإخبارى.
والنكبة الخامسة، كانت، كما يقول، فى رحيله إلى أوروبا فزار إيطاليا وفرنسا، وأقام فى إنجلترا نحو عامين، فقرأ جرائدها واجتمع على رجال الصحافة وأرباب السياسة فيها، وحضر جلسات البرلمان ومجتمعات الأدباء واستمع لخطب الخطباء.
والنكبة السادسة والأخيرة فى هجرته بلاد الحرية والعودة إلى بيروت، وإلى تحرير «لسان الحال» تحت ضغط المكتوبجى وظلم الحكومة بعد أن تذوق حلاوة الحرية.
ولعل فى رسالته الشهيرة إلى السلطان العثمانلى عبدالحميد الثانى خير مثال على ما شهد به على ذلك العصر.. ونذكر منها بعض تلك السطور: «مولاى.. يسوءنى أننى من جملة رعاياك؛ لأنه يسوءنى أن أكون عبدًا، وأنت عوَّدتنا أنك تعتبر الرعية فى منزلة عبيدًا لك بدلًا من أن تتبع الحقيقة، وهى أن تكون عبدًا لنا، ولما كنت لا أستطيع التخلص من هذه التابعية، فعلى الأقل أحاول أن أعلن للناس أننى عبدك رغمًا عنى، وهذا كل ما أستطيع أن أفعله الآن». ويضيف «سركيس»: «لكن كما أن الدول المتمدنة قد ألغت الاسترقاق والنخاسة وأعطت العبيد السود حريتهم، كذلك قدر الله العلى الحكيم أن أخرج من مملكتك وأن أقيم فى حمى حكومة مصر العادلة، فمن هذا القطر الذى أصبح سعيدًا من يوم تقلص ظل نفوذك عليه أعرض لمسامعك الشاهانية ما أشكوه أنا ويشكوه سائر رُصَفائى فى تركيا من السياسة الخرقاء التى تبعتها جلالتك، وأصرِّح لك، غير خائف ولا وجل، بأنك فى سياستك هذه تسُوق بلادك ورعيَّتَك إلى خراب عاجل وسقوط سريع». ويتابع: «إن ترقِّيكَ يا مولاى إلى عرش أجدادك قد أوجد عدة ضربات أصيبت بها الدولة العثمانية، ومن جملة تلك الضربات قتل العقول، الأمر الذى تفرَّدت فيه عن سواك من السلاطين». أنت تدرى يا مولاى مقدار خوفك على حياتك، وأنت فرد من الناس فكم بالحرىّ يليق بنا، نحن الأمة بأسرها، أن نحرص أيضًا على عقولنا وأن ندافع عنها، وهى أشرف ما وهبه لنا الله تعالى...فأشفِق يا مولاى على نفسك من ذلك اليوم الرهيب. دامت مصر العادلة.. تحيا مصر كل عصر.. مصر الشعب والجيش والقائد والتاريخ والحاضر البديع.. والمستقبل المشرق المبشر بإذن الله بكل خير..