رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصوم الكبير وحضارة الحب




٨ مارس الجارى كان بداية الصوم الكبير، ويعد استجابة لنداء السيد المسيح فى بدء رسالته العلنيّة «لقد اقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر ١: ١٥) يلخّص مبدأ زمن الصوم الذى هو مسيرة ارتدادٍ وجهادٍ ضدَّ الشر. إنّه زمن توبةٍ أى رجوعٍ لله، ولكنّه ليس زمن حزن! إنّه التزامٌ فَرِحٌ لكى نتخلّى عن أنانيَّتنا، وعن الإنسان القديم. فوحده الله بإمكانه أن يعطينا السعادة الحقيقية، وملكوت الله ما هو إلا تحقيق لطموحات المؤمن، وفى الوقت عينه خلاص الإنسان ومجد الله. من هنا، الصائمون مدعوّون للإصغاء إلى نداء السيد المسيح هذا للتوبة والإيمان.
يقول قداسة البابا فرنسيس، بطريرك الكاثوليك بتلك المناسبة: «إنَّ زمن الصوم هو زمن للإيمان، أى لكى نقبل الله فى حياتنا ونسمح له بأن «يقيم معنا».. هذا ما كتبه قداسة البابا فرنسيس فى رسالته بمناسبة زمن الصوم الكبير لعام ٢٠٢١..».
وفى رسالة محبة وسلام أضاف قداسته «انطلاقًا من المحبة الاجتماعيّة، يمكننا أن نتقدّم نحو حضارة الحب التى يمكننا جميعًا أن نشعر بأننا مدعوون إليها. كذلك يمكن للمحبة، بديناميكيتها العالمية، أن تبنى عالمًا جديدًا، لأنها ليست مجرد شعور عقيم، لا بل هى أفضل طريقة لبلوغ مسارات تنمية فعّالة للجميع. إنَّ المحبة هى عطية تعطى معنى لحياتنا وبفضلها نعتبر الذين يعانون الحرمان أفرادًا من عائلتنا وأصدقائنا وإخوتنا. إنَّ القليل، إذا شاركناه بمحبة، لا ينتهى أبدًا، بل يتحول إلى زاد حياة وسعادة. كما حصل مع الدقيق والزيت مع أرملة صَرفَة، التى قدمت الكعكة للنبى إيليا، وللأرغفة التى باركها السيد المسيح، وكسرها وأعطاها للتلاميذ ليوزعوها على الجموع. هكذا يحدث لصدقتنا، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، التى تُقدَّمُ بفرح وبساطة...».
ويتابع قداسته فى رسالته عن مساندة الآخر بعيش المحبّة فى هذه الظروف الصعبة: «إنّ عيش الصوم الأربعينى بالمحبّة يعنى الاهتمام بالذين يعيشون فى حالة معاناةٍ أو تخلٍّ أو ضيقٍ بسبب جائحة فيروس كورونا.. فلنقدِّم مع محبّتنا كلمة ثقةٍ، ونجعل الآخر يشعر بأنّ الله يحبّه مثل ابنٍ له». وكم هو معبّرٌ، فى هذا السياق، قول مار بولس رسول الأمم: «فليملأكم إلهُ الرجاء بالفرح والسلام بالإيمان، لتزدادوا فيه رجاءً بقوّة الروح القدس» (روم ١٥: ١٣).
وقد ذكر قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أن هناك العديد من المعانى الروحية، التى يتضمنها الصوم الكبير المقدس ويجعلنا نعيشها، ما يؤكد أهمية الصوم المقدس فى بناء الحياة الروحية، وأن الصوم الأربعينى به فترة انقطاع عن الطعام، وهو ما يساعد على تقوية الإرادة، يتبعها تناول الطعام النباتى، وهذا يرجعنا إلى حياة الفردوس ويذكرنا بها.
وقال قداسته عن الأربعة آحاد الوسطى فى الصوم الكبير، وهى: الأول هو أحد الابن الضال وهو فصل الاختيار، الابن الضال فقد كل شىء إلا الرجاء، وعندما رجع إلى بيت أبيه وجد أن السجن خارج البيت، أما مع أبيه فهى الحرية الكاملة، والثانى هو أحد السامرية، وهو فصل التكرار، فالسامرية كررت الخطية خمس مرات، ولكن عند مقابلتها للسيد المسيح كشفت هذه الخطية ولفظتها ولم تعد إليها.
وتابع: أما الثالث فهو أحد المخلع وهو فصل الاستمرار، فالمخلع ظل هكذا لمدة ٣٨ سنة، وفى العهد القديم كان المرض يرتبط بالخطية، فخطية المخلع قيدته، ولكن ظهر الرجاء عندما قابل السيد المسيح وقال له: «قُمِ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ فيجب ألا نستسلم للخطية مهما طال الوقت.. والرابع هو أحد المولود أعمى وهو فصل المرار، فهذا الإنسان لم يبصر نورًا، وهكذا الخطية عندما تمتد مع الإنسان تفقده البصيرة، ولكن يأتى الرجاء عندما يقابل السيد المسيح ويبصر».
ومعلوم أنه فى زمن الصوم الكبير، يمتنع عن تناول بعض الأطعمة، كالانقطاع عن الطعام واللحوم والبيض والأسماك وسواها، كما يقرن الصوم برفع الصلوات الحارّة، والمشاركة فى الصلوات الطقسية، وممارسة أعمال الرحمة، والاهتمام بالمحتاجين، من خلال التقشّف والتخلّى عن بعض الملذّات لمساعدة من هم أشدّ فقرًا وعوزًا. وهكذا يعود زمن الصوم بكنوزه كلّ عام، كى يقدّم للصائم فرصةً جديدةً من أجل حياةٍ أفضل ملؤها البركة والخير، والنموّ فى الفضائل الروحية، والتحرّر من المادّية المهيمِنة فى عالمنا. فالصوم هو زمن الجهاد الروحى بامتياز، إنّه محطّة سنوية للتجدّد بالإيمان، من خلال الممارسات التقوية والعودة إلى الذات فى سبيل التوبة.