رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وما أدراك ما الستينات؟


منذ تعرفنا فى مصر والمنطقة العربية على مصطلح أطلقه السياسى الأمريكى جوزيف ناى «القوة الناعمة»، الذى يشير إلى أهمية التعامل الإيجابى مع قوة وأثر ودور وفعل الثقافة والقيم الأخلاقية والسياسية بهدف تغيير الأوضاع السائدة فى المجتمع، ونحن للأسف نكتفى بتداول واستعمال المصطلح، ولا نُفعِّل أهدافه أو نفيد من تجليات مفهومه، ولا نسعى بجدية للذهاب بقوانا الناعمة وعناصرها الإبداعية الفنية والثقافية والقيمية والأخلاقية، التى تمثل فى النهاية رأس المال المعنوى، نحو إعادة الروح لمؤسساتنا الإعلامية والثقافية والتربوية إداريًا وفنيًا وعبر النخبة المثقفة.

يحدث ذلك التلكؤ والتباطؤ رغم أن رئيس الدولة عبدالفتاح السيسى، ومنذ حملاته الانتخابية، كان تحيزه وإيمانه بدور الثقافة والفنون كقوى ناعمة واضحًا وحماسيًا، عندما أعرب عن سعادته بلقاء نجوم مصر وأهل الفنون فى لقاء طيب وحاشد معهم، أوصاهم وطالبهم فيه بتفعيل القوى الناعمة المصرية، وأعرب عن سعادته بوجود الفنانة العظيمة الراحلة فاتن حمامة، وذهب إليها مصافحًا ومحييًا وممتنًا لمشاركتها.. وتكررت دعواته فى كل خطاباته على وجه التقريب لإحداث ثورة فى مجال تطوير الخطاب الثقافى والإعلامى والدينى، وعليه فالفرصة متاحة لتفعيل رأس المال المعنوى، حيث القوى المعنوية والروحية تبقى هائلة لدى الشعوب بشكل عام، ولدى شعبنا العظيم بشكل خاص، بينما القوى المادية، مهما بلغ تعاظم وجودها، هى محدودة ولها عمر ومساحة وجود، وإن كان أمر تعظيم وجودها فى تلك الفترة من الأمور المهمة والضرورية أيضًا.

وهل ننسى أن الشرارة المهمة والرائعة والمثمرة لقيام شعبنا بثورة ٣٠ يونيو المجيدة كانت فى بيت الثقافة، وهى الثورة التى منحت الشرعية للإدارة الحاكمة للبلاد للدفاع عن الهوية المصرية الثقافية والروحية والتاريخية.

نعم، حدث فى بيت الثقافة، وبحضور أهل وصناع القوى الناعمة ومنتجوها من أهل الفكر والفن والثقافة والإبداع، عندما قاموا بتشكيل ما اتفقوا على تسميته «جبهة الإبداع».. وكان الاحتشاد الرافض للوجود الإخوانى أمام مكتب وزير الثقافة الذى قررت جماعة الجهل والتخلف تعيينه كمسمار جحا لإدارة عجلة التخلف والعودة للوراء، والذى بدوره، وقبل أن يتمكن من الجلوس على كرسى الوزارة، سارع بإصدار عدة قرارات لتصفية وجود رموز التنوير والثقافة والإبداع لتمكين جماعته من تغيير معالم الهوية المصرية الحضارية.

عقب ثورة يوليو المجيدة، وفى بدايات الزمن الناصرى، كان الاهتمام من قِبل الدولة بالثقافة ودورها التنويرى رائعًا، ولعل تعيين د. ثروت عكاشة، الجنرال المثقف والباحث والمفكر والمؤرخ المتابع لحركة الفنون والحضارات فى كل الدنيا، من أهم العوامل الدافعة لتفعيل وتنمية البناء الثقافى فى تلك الفترة «الخمسينيات والستينيات» كأحد مقومات بناء الدولة ونهوضها، من خلال بنية تأسيسية قوية وأجهزة ثقافية ضخمة، فكان إنشاء وزارة الإرشاد القومى عام ١٩٥٣، والمجلس الأعلى للفنون والآداب عام ١٩٥٥، ومؤسسة دعم السينما عام ١٩٥٧، ومسارح الدولة، وقصور الثقافة، وأكاديمية الفنون، ودور النشر وإصدار الكثير من المجلات والصحف، ولم يكن ذلك لمجرد الإعلان عن ثورة راعية للثقافة والفنون، لكن بغرض توظيف الثقافة والفنون كقوى ناعمة ووسيلة وآلية داعمة لحالة احتشاد وتعبئة وطنية وتوطيد لمفهوم دور الثقافة والفنون فى مراحل التغيير وإعادة البناء.

ومعلوم أن التغيير الحقيقى لا يكون بلا تنوير، والتنوير الحقيقى لا يكون بلا جماهير، فالتنوير الفاعل هو التنوير الذى يستطيع الوصول إلى وعى التطلعات الشعبية التى وصفها «هنتنغتون» بأنها: «محرك التاريخ».

إنها «الستينيات» التى باتت تمثل عقدة تاريخية لدى جماعة الإخوان، ومَنْ منّا يمكن أن ينسى ما جاء فى أول وآخر خطاب لرئيسهم «مرسى» بميدان التحرير، بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية، عندما وقف بين جماهير جماعته يستعرض مراحل التاريخ المصرى المعاصر، وعندما وصل إلى عقد الستينيات من القرن الماضى استخدم تعبير «وما أدراك ما الستينات؟». وهو ما يمثل عقد الصدام الحاد بين عبدالناصر و«الإخوان»، رغم أنهم من ذهبوا وصنعوا أسباب هذا الصدام، بعد أن كان عبدالناصر قد أفرج عنهم ضمن غيرهم ليشاركوا فى بناء مصر الجديدة، لكنهم اختاروا أن تكون مشاركتهم عبر استمرار الصدام مع «عبدالناصر»، ومع ذلك فقد ذكر «مرسى» تعبير «وما أدراك ما الستينات؟» بما يوحى لمتلقى خطابه بمظلومية إخوانية، وأنهم ضحايا عصر ناصر الثورة.

إنها جماعة الإخوان وتاريخها وأفعالها الظلامية المعادية للثقافة والتنوير، وكل فعل حضارى وإنسانى، وهى التى واجهناها وما زلنا نقاوم ونحارب خلاياها الإرهابية كعناصر للفعل الإرهابى فى الداخل والخارج، وكفكر استطاعت تلك الجماعة- على مدى ما يقارب القرن من الزمان- ترويجه لدى مجتمعات البسطاء، عبر مؤسسات دينية وتعليمية وجمعيات ونقابات وشركات ومصالح حكومية بدعوى الإصلاح الدينى، باستخدام كل آليات الجذب ودغدغة مشاعر أهالينا الطيبين للأسف.

الفرصة قائمة، ودعوات القيادة السياسية مستمرة لاستنفار حماس أهل الإبداع، لتشكيل قوة ناعمة داعمة لنشر الفكر المستنير وإعلام مساند لتوجهات دولة معنية بإعادة بناء الإنسان.. ودراما وغناء ومسرح وسينما جميعها تتشارك فى صياغة دنيا جديدة ينعم فيها المواطن بكل حقوق المواطنة.