رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفنون وتجليات إبداعاتها الدينية


عبر تداول أزمنة الإبداع الإنسانية التاريخية، كانت هناك دائمًا محاولات وتجارب لإعادة التعامل الإبداعى مع موضوعات الأيقونات من حيث فحوى الرسالة وجماليات التعبير ومقاصدها الروحية من عصر إلى عصر، وأيضًا من خلال تنوع الفهم المذهبى والروحى لمفردات دراما تعاليم تلك الرسالة الخالدة.
لعل اللوحة الأيقونة الشهيرة «العشاء الأخير» للفنان العالمى العظيم «ليوناردو دافنشى»، والتى لا يخلو بيت مسيحى من وجود نسخها على جدران غرف المائدة، خير مثال لأيقونة توجز أحداث ومواقف أبطالها فى لحظات حدث تأسيسى خالد عبر الاهتمام بتصوير إيماءات شخوصها واتجاه النظرات وترتيب وجودهم حول السيد المسيح ومدى درجات الإيمان وغيرها الكثير من معانى الرسائل التى جاءت مفسرة وشارحة لبعض آيات الكتاب المقدس حول تلك المناسبة، ولعل جدارية الفنان التشكيلى المصرى الكبير «عادل نصيف» الحديثة حول نفس الحدث على جدران إحدى الكنائس الأوروبية برؤية جديدة، تشير إلى أهمية الأيقونة كوسيط إيمانى قائم ومستمر، ورسالة إبداعية تثمن دور الفنون ورسائلها المُرقية للحس الجمالى والتفاعل الدرامى.
«نصيف» الملقب بسفير الفن القبطى بحق يرى أن الفن القبطى فن شعبى، أنتجه الشعب، لذلك يتميز بالبساطة وقوة التعبير، يحاور المصلى بملامح جذابة وبسيطة ويعلمه الطقس والعقيدة والرمزية، وأهم شىء على الإطلاق أنه فن التعبير عن الروح، كل ما نرسمه يمثل الكنيسة الخالدة «القديسين» المتحررة من الجسد، ولذلك فهى تترك نورًا على الأرض وليس ظلًا، وباختصار هو فن البعد عن الواقع، لأن الواقع مادى ولم يتحرر من مادته، وليس كما الفن الغربى يجسد الموضوع كمشهد مسرحى واقعى مادى لا يركز على الروحانية كما فى فنوننا القبطية، وليست البساطة تشويهًا أو قبحًا، لأننا نرسم شخصيات ممجدة، وتعبر عن روح الفرح والغلبة والانتصار.
ويقول لنا أهل توثيق التاريخ القبطى إن كلمة «أيقونة» تطلق على الرسومات ذات الطابع الروحى التى تعكس حقيقة إلهية، وما عداها فهى لوحات وفنون شعبية. ولقد أبدعتها الكنيسة، واضعة لها قواعد للرسم لتكون لقاءً مع الخليقة الجديدة، ومن ناحية أخرى، فالأيقونة نافذة على «العالم الآخر»، حيث لا سيطرة للزمان والمكان، ولهذا تبدو الخطوط فى الأيقونة غريبة بعض الشىء، لأنها لا تنقل صورة كالفوتوغرافية أو الفن الطبيعى.
بمشاهدة الأيقونة نتعلم ونعرف الطريق إلى الإيمان مشتركين فى الحدث كأنه حاصل أمامنا، وشيئًا فشيئًا، نصبح أكثر فأكثر قربًا من الله من خلال رؤية وتأمل جمال مشهده..
وتُعد الأيقونة القبطية فلسفة كنسية روحانية تساعد على ترسيخ الإيمان والمعرفة فى الشعب، يضاف إلى ذلك أن الأيقونة تعتبر عظة وكتابًا مرسومًا مسجلًا بلغة بسيطة جامعة يقرؤها الكل دون تمييز بين لسان ولسان،.. يترجمها الأمى بلغة البساطة كمن يقرأ كتابًا أو يسمع عظة ويتلمس فيها المتعلم ما تعجز المؤلفات عن الإفصاح عنه.
وعندما نتأمل الأيقونة لا نقف عند حدود جمال الفن أو عدمه، ولكنها ترفع الفكر إلى ما وراء الألوان، والمادة إلى شخص صاحبها وتمزج مشاعرنا بمشاعره.. حينئذ نقرأ فيها قصة حياة صاحبها كلها فى نظرة واحدة، وتملؤنا بعواطف جديدة من حياته المثيرة، فهى تنطق بجهاده الذى قدمه وتشهد للأكاليل التى نالها وتهتف بالمجد العتيد أن يتمجد به.
وفى الإيمان المسيحى، الله خلق العالم كأيقونة للإبداع الجميل بثراء مفردات خالدة متناغمة فى إعجاز مهيب محرك للمشاعر.. وعندما خلق الله النور المجيد، كان قد قرر ما سيفعل فى الخليقة الجديدة لقلوب الناس «فَإِنَّ اللهَ، الَّذِى أَمَرَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنَ الظَّلاَمِ، هُوَ الَّذِى جَعَلَ النُّورَ يُشْرِقُ فِى قُلُوبِنَا، لإِشْعَاعِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ الْمُتَجَلِّى فِى وَجْهِ الْمَسِيحِ» (٢ كورينثس ٤:٦).
وفى فقرة إضافية حول دور الفنان والفنون لمجتمعاتهم، وبمناسبة ما نعيشه من تبعات لكارثة «وباء كورونا».. نتذكر أنه وقبل قرابة قرن فى عصر شكسبير، حدثت نجاة فنان عصر النهضة الإيطالى ليوناردو دافنشى من وباء الطاعون الذى ضرب ميلانو فى نهاية القرن الـ١٥، وقتل حوالى خمسين ألف شخص يمثلون ثلث سكان المدينة، التى- للمفارقة- تعيش هذه الأيام معاناة واقع تفشى فيروس كورونا أيضًا.. ويذكر تاريخ الفنون فى عصر النهضة كيف ألهم الطاعون دافنشى لتصميم مدينة مستقبلية عبر عنها من خلال سلسلة من الرسوم والتدوينات اكتملت بين ١٤٨٧ و١٤٩٠، وتوجد فى مخطوطة لا تزال باقية حتى الآن، وعمد فيها لتحويل مدن القرون الوسطى مثل ميلانو- التى كانت ضيقة، يصعب التنقل فيها، وقذرة، ومزدحمة، وتساعد فى انتشار المرض- نحو تخطيط أكثر حداثة مدعوم بشبكة قنوات تدعم التجارة وحركة البضائع والصرف الصحى، وقسم المدينة رأسيًا إلى ثلاث طبقات مختلفة لكل منها غرض مختلف.