رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما ولد الرفق يوم ميلاده



فى قصيدة شهيرة لأمير الشعراء أحمد شوقى يصف بها مشهد الميلاد.. غرد:
وُلد الرفق يوم مولد عيسى.. والمروءات والهدى والحياء، وازدهى الكون بالوليد وضاءت.. بسناه من الثرى الأرجاء، وسرت آية المسيح كما يسرى.. من الفجر فى الوجود الضياء، تملأ الأرض والعوالم نورًا.. فالثرى مائج بها وضّاء.
نعم، لقد كان الرفق والتسامح والسلام هو العنوان الأبرز لرسالة السيد المسيح فى دعوتها إلى حالة الصلح، وإلى أن نكون فى حالة وئام ومحبة دائمة مع الجميع. فالمحبة لا تسقط أبدًا. يقول يوحنا البشير: إن قال أحد إنى أحب الله وهو مبغض لأخيه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذى يراه كيف يستطيع أن يحب الله الذى لا يراه!.
ولا شك أن حدث ميلاد السيد المسيح بالجسد هو من أعياد المسيحية الكبرى، وقد انتظرته البشرية طويلًا جدًا. إن النجم هو الذى هدى المجوس، فأوصلهم إلى المسيح ليسجدوا له، ويقدموا له فعل عبادة، فيما أقربهم إليه لم يهتموا بحدث ولادته، لا بل إن «هيرودس» الملك خاف منه على عرشه، فتربص به شرًا، عندما دعا المجوس سرًا، وتحقق منهم زمن ظهور النجم. وكان فى نيته أن يفتك بالوليد الجديد خوفًا منه على عرشه الزائل. ولكن الله الذى علم ما فى القلوب ويكتشف المخفيات، عرف ما كان يضمره «هيرودس»، فأوعز فى الحلم إلى المجوس لكيلا يرجعوا إليه. وكان «هيرودس» قد طلب إليهم العودة إليه، ليذهب بدوره لتأدية واجب العبادة للمولود الجديد، على أن ما قال لهم بالطبع كان خدعة، لقد رأى المجوس نجمه فى الشرق، فأتوا ليسجدوا له. هذا النجم الذى هدى المجوس إلى المسيح «طفل المزود»، ورافقهم من مقرهم البعيد، وهداهم إلى الطريق الموصل إلى بيت لحم، لا يزال يهدى الناس إلى المسيح، ولكنهم قلائل الذين ينتبهون إلى هذا النجم الهادى.
ولا ريب أن هذا النجم هو الضمير الذى يهدى الناس فى سبيل الخير والصلاح. وقد وصفه المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى بقوله: «إن الله كمخلص يريد أن يقود كل الناس إلى الخلاص، وأيضًا أولئك الذين، دون خطأ منهم يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، إنما يفتشون عن الله بنية صادقة، ويجتهدون فى أن يكملوا بأعمالهم إراداته التى تعرف لديهم، من خلال أوامر ضميرهم، هم أيضًا يبلغون الخلاص الأبدى».
لقد كان ميلاد المسيح فى حقيقته مفتاح قراءة شخص المسيح وأعماله وكل أقواله...
تقول الآية «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِى الْمِزوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِى الْمَنْزِلِ».. وهنا يتناول الأب متى المسكين التعقيب على المشهد قائلًا: قلبى على هذه الأم الوحيدة، كيف احتملت المخاض وحدها؟ كيف استقبلت الطفل بيديها؟ كيف قمَّطته وهى منهوكة القوى؟ ماذا شربت وماذا أكلت؟ اشهَدْنَ يا نساء العالمين على أُم المخلِّص، كم عانت وكم تستحق التمجيد؟ عزائى الوحيد أن الرحلة الشاقة ذات الأيام الأربعة والتسعين ميلًا سهَّلت الوضع بحسب خبرة أصحاب التوليد وأهَّلتها لمعونة ملائكية، وأُخفيت عن الإنجيل ليزداد عطفنا عليها وحبُّنا لها. وهكذا استقبل العالم «المسيَّا» الموعود رجاء كل الدهور «نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ» فى مزود للبهائم. ويبدو أن فى هذا تعييرًا شديدًا لإسرائيل، كون المسيح قد استأمن البهائم على حياته ولم يستأمن بيت يعقوب: «اِسْمَعِى أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِى أَيَّتُهَا الأَرْضُ، رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَىّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِى لاَ يَفْهَمُ».
فى الإيمان المسيحى، يمثل يوم ميلاد المسيح ميلاد الصلة الأروع وبزوغ صلة المحبة مع مصدر الحياة، فالله بالميلاد والتجسد البتولى لم يعد مجرد فكرة نظرية أو مجرد حالة نادرة ومثال روحى يحكى عنه، أو حتى حالة إعجاز كونية يتم تداول بيان تفاصيلها وتختفى بعد حين كأى حدث عابر.
فى الإيمان المسيحى، وعبر حدث الميلاد يتأكد المسيحى أنه قد علم وتأكد أنه بات على يقين بلقاء الإله بشكل حسى ومادى عبر الناسوت وفعل الروح القدس، وعليه يكون إيمانه قد تدعم بيقين والتزام عتيد بقصة الميلاد ورسالته للإنسانية.
فى الإيمان المسيحى، أن درب الحب السمائى والأرضى بفعل حدث الميلاد المجيد هو الدرب الأوحد لتجاوز مشاعر الاغتراب الذاتية ومع كل البشر والأهم مع الخالق العظيم، بعد أن تأكد للمسيحى أن الله يحبه فى حالته الإنسانية، فلا قطيعة بعد ميلاده بينه وبين ذاته، وبينه وبين الآخرين، وبينه وبين الراعى الصالح الخالق العادل المحب للسلام.. وعليه أنشدت الملائكة لمولده «الْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ». فى يوم مولدكم يا «طفل المغارة»، نتضرع إليك أن تظللنا بخيمة الحب والسلام، وأن ترفع عن العالم بلاء الوباء، بل وأن تنصب المحبة فى قلوبنا فيَنفض منها غُبار الخطايا التى عشناها فى أزمنة الغربة.. امنحنا يا «طفل المغارة» المزيد من مشاعر التواصل الحميم والألفة البديعة والتكاتف المتعاضد، وأن نبقى سورًا مَنيعًا فى وجه ما نعيشه من تفكك روحى وأخلاقى.. ولمصرنا فى عهدها الجديد منحة السلام وعطايا الخير...
«من مصر دعوت ابنى»...
وكل عام ومصر السلام وقراء جريدتنا الغراء بخير وعزة وصحة وسلام.