رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا نرى التاريخ بعين واحدة


فى مقابلة صحفية أجريتها مع الكاتب والسيناريست الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة لمجلة «المصور» قبل مغادرته دنيانا بأشهر قليلة، وحول رأيه فى دراما مسلسل «الملك فاروق» والسياق التاريخى الذى انتهجته المؤلفة، فكان رده «إن كاتبة المسلسل كانت لها قراءة خاصة للأحداث بنظرة عين واحدة على أحوال البلاد والعباد فى زمن حكم فاروق».
وتابع: «راقها المجتمع المخملى ورأت فيه مادة جاذبة للمشاهدة، ولم تقترب دراما العمل من سلبيات الملك الشخصية ولا تبعات نظام حكمه، ولم نستشعر من السياق الدرامى أن مصر كانت فى النهاية، فى زمانه، بلدًا محتلًا يعانى فيه الشعب من نسب عالية من البطالة والأمراض والفقر والحفاء، باستثناء شريحة قليلة العدد تحتكر المناصب والثروة والمناصب، واعتلال حالة العدالة الاجتماعية».
وفى الواقع إن قراءة التاريخ بعين واحدة باتت تمثل مشكلة، وإلى حد ترديد قول شائع «إن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون»، بمعنى أننا نسمع عن الأحداث ونتبادل ترديدها دونما رؤية على أرض الواقع، فيختلط الصدق بالكذب عبر الاجتزاء والحذف والإضافة بالمشهيات والمقبلات المثيرة، لبيان التميز والانفراد بلوى عنق الوقائع والأحداث.
معلوم أن التاريخ فى النهاية محاولة لقراءة واقع وأحوال الوطن والمواطن الآنية، من خلال وعى موضوعى بملامح وسمات الماضى، وينبغى فى هذا الإطار الحرص على عدم تزييف أحداث الماضى ووقائعه، واعتبارها مسلمات يتم ترديدها بكل لجاجة وإلحاح عبر كل وسائط التوثيق الوهمية ووسائل الميديا المختلفة حتى تبدو حقائق للأسف.
وعليه، أسعدنى إطلاق الكاتب الصحفى «أحمد رفعت» مبادرة بمثابة حملة لمواجهة تزييف تاريخ مصر وتبييض عصر الاحتلال البريطانى، وتشويه دور أبناء الجيش العظيم فى ثوراتهم الثلاث.. العرابية، ويوليو ٥٢، ويونيو ٢٠١٣.
وعلى هواء البرنامج التليفزيونى الشهير «آخر النهار» انضم إلى المبادرة وتفعيلها الإعلامى البارز والكاتب الصحفى رئيس تحرير جريدتنا الغراء الدكتور «محمد الباز»، ووعد بالمشاركة تليفزيونيًا وصحفيًا وإلكترونيًا دعمًا للحملة، لمواجهة كتائب تخريب الوعى العام لدى أبناء وطننا العظيم.
وقال «أحمد رفعت» إن د. الباز قد وعد بأن برنامجه سيكون مفتوحًا لأعضاء الحملة وكذلك صحيفة «الدستور»، وقد يخصص صفحة أسبوعية للحملة لكتابات وشهادات أعضائها، لرغبته فى دعم هذه الحملة دعمًا لهدفها النبيل فى الدفاع عن تاريخ مصر وجيشها العظيم ودوره فى حماية مصر وشعبها.. وكل الترحيب بأصحاب الحملة. وأتذكر فى هذا السياق أن مثل تلك القراءات السلبية للتاريخ، قال عن بعض أسبابها المؤرخ المصرى الكبير الراحل «د. رءوف عباس حامد» إنها قد تعود إلى نقص فى ثقافة كُتّاب التاريخ وارتباطهم بالفهم الخاطئ لوظيفته؛ وإلى عدم الاهتمام الأكاديمى العربى فى برامج دراسة التاريخ بدراسة العلوم المساعدة التى يجب أن يتزود بها دارس التاريخ، الذى يفترض فيه الاشتغال بالكتابة التاريخية.. فدون قدر كافٍ من المعرفة الاقتصادية والاجتماعية لا يستطيع المرء أن يكون مؤرخًا على الإطلاق، لأنه بذلك يفقد القدرة على تحليل الأرضية التى يرتكز عليها أى مجتمع من المجتمعات، ولا يستطيع أن يضع يده على عوامل الحركة والسكون فيه، ولا يقدر على فهم حركة التغيير التاريخية وتقييمها ومحاولة تفسيرها.
ونفس الشىء يمكن أن يقال على كل العلوم الإنسانية المساعدة الأخرى، فليست وظيفة المؤرخ سرد الحوادث فحسب، بل عليه أن يفسرها ويضعها فى إطارها الصحيح من تطور المجتمع، ولا يمكن أن ينجح المؤرخ فى مهمته إلا إذا تزود بالأدوات التى تُعينه على أداء العمل على الوجه الأكمل.
لقد كتب المؤرخ والكاتب الصحفى المصرى الراحل العظيم «صلاح عيسى»، مقدمة لأحد أعماله، قائلًا: «إننى فيما اجتهدت فيما فهمته من ظواهر التاريخ المصرى والعربى، كُنت بقدر الطاقة موضوعيًا، لكنى لم أكن أبدًا محايدًا، وذلك ما كان واضحًا أمامى وأنا أختار تلك الومضات، فقد حرصت على أن أروى الواقعة كما حدثت بقدر ما تسعفنى المقارنة بين الروايات المختلفة للحدث الواحد، وتلك هى الموضوعية كما أفهمها، لكننى رجحت دائمًا تلك الروايات ضد أعدائه (أعداء الشعب)، ومستغليه، فالحياد بين الشعب وبينهم، كان دائمًا- فى منظورى- خيانة قبيحة وصريحة».
فى يناير المقبل، وبعد أيام قليلة تتجدد ذكرى رحيل المؤرخ الكبير د. يونان لبيب رزق، «ذاكرة مصر»، أحد أشهر مؤرخى مصر المعاصرين، الذى رحل عن عالمنا منذ ١٢ عامًا، ومن المهام الوطنية التاريخية المهمة التى اضطلع بها كمؤرخ مثالى فى نظرته العلمية والأكاديمية للأحداث والوقائع التاريخية، الدور الذى لعبه أثناء شغله عضوية هيئة الدفاع المصرى فى قضية طابا عام ١٩٨٨، حيث لعب دورًا حاسمًا فى إعادتها لمصر من خلال الوثائق التاريخية والصور التى قدمها للجنة التحكيم، والتى حسمت بشكل قاطع ملكية مصر هذه المنطقة فى سيناء، ومن أدواره الوطنية أيضًا عضوية الوفد المصرى فى مؤتمر مدريد عام ١٩٩٠، وعضوية الوفد المصرى فى المفاوضات مع السودان حول قضية حلايب خلال عامى ١٩٩٢ و١٩٩٣.. تحية لروحه ولكل حراس التاريخ المصرى، وللحملة التى جاءت بمبادرة وطنية أطلقها الكاتب الصحفى «أحمد رفعت» للدفاع عن مكتسبات أمة يراد تشويه تاريخها.