رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى البدء كانت مصر.. والدراما كمان



«فى البدء كانت مصر.. قبل الزمان ولدت، وقبل التاريخ، هنا بدأ كل شىء: الزراعة، والكتابة، والورق، والهندسة، والقانون، والنظام.. وهنا، وقبل كل شىء ولد الضمير».
حرر تلك العبارة العالم العظيم «جيمس بريستد» فى مقدمة كتابه المرجعى الرائع «فجر الضمير» والعبارة توجز بصدق وتشير إلى كلمة السر فى تقديم مصر التاريخ ومظاهر تلك الحضارة العبقرية فى وجود «الضمير»، وهو الذى دعاه لأن يعنون كتابه بــ«فجر الضمير».
ونحن الآن إذ نستدعى من آن إلى آخر «صحوة الضمير» عند سعينا لتشكيل وعى متجدد لشبابنا وأطفالنا بقيم الانتماء والاعتزاز بالهوية المصرية فى إطار بناء الإنسان، نأمل أن تكون هناك مجموعة من المبادرات والتوجهات من قِبل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى لدعم جهود مؤسسات التعليم والتنشئة والإعلام والثقافة لتقديم خطط متكاملة لاحتواء الأجيال القادمة وحمايتها من تغول دعاوى التطرف والفكر المحبط المخاصم لكل قيم المحبة والسلام والاندماج الوطنى والأمان الاجتماعى والفخر بالذات الوطنية.
وفى هذا الإطار ترى د. إلهام سيف الدولة حمدان أن الأدب المسرحى بدأ فى مصر الفرعونية قبل «اليونان»، بما يقرب من ثلاثة آلاف عام، كما يوضح الباحثون أن هذا يتضح من تمثيلية «منف» فى عهد الملك «مينا»، ومسرحية التتويج فى عهد الملك «سنوسرت الأول»، وكذا مسرحية انتصار «حور» على «سِتْ»، إله الشر قاتل والده «أوزوريس»، بل يقولون إن كاتب هذه المسرحية هو الحكيم «أمحُتب» فى عهد الملك «زوسر»، واعترف بتلك الحقائق المؤرخ اليونانى «هيرودوت».
وتؤكد «حمدان» أن المسرح المصرى لم يقتصر فى حقبة الفراعين الأوائل على عتبة المعابد، بل خرج إلى عامة الشعب، وتقوم بالتمثيل فرق متجولة مطعمة ببعض الرقص والغناء، ثم أعقب ذلك اندثار لتلك القفزات الفنية فى المجتمع وتلاشت معالمه فى حقبة مصر تحت السيطرة الرومانية واليونانية، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل جاء عتاة الأصوليين من دعاة الانعزالية ليشنوا الحرب الضروس على النشاط المسرحى والفنون بكل أشكالها، إلى أن جاءت الانفراجة فى عصور التنوير، وعاد المسرح إلى نشاطاته ابتداء من القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، فظهرت تمثيليات المعجزات الخارقة التى تناولت حياة السيدة العذراء وبعض مشاهير القديسين الذين حفل التاريخ بمعجزاتهم المتداولة بين عامة الشعب داخل المجتمع.
أما دراما زماننا على فاترينات العرب وعلى شاشاتهم التليفزيونية، فهى عروض تعتمد فى إنتاجها على حسابات أخرى، لم يعد للأسف من بين مواصفات الكثير منها الجودة والإتقان والحداثة ومطابقة المواصفات الفنية وإعطاء الأولوية للجانب الإبداعى والتلاحم مع واقع الناس وطموحاتهم لدفعهم لتحقيق طفرات تقدمية، أو حتى تقديم جرعة ترفيهية خفيفة مقبولة، بل دخل فى الحسابات مدى نجومية الممثل مهما بالغ فى أجره ما دام يحقق مردودًا ماديًا عند البيع والتداول، حتى لو كان ذلك على حساب ترويج دراما ضعيفة المستوى لمؤلفين متواضعى الموهبة يتم الضغط عليهم لإعداد توليفة تقليدية بأقل تكلفة.
فانتشرت الدراما التقليدية الساذجة لموضوعات تجاوز المجتمع قضاياها منذ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى.. مثل صراع الطبقات، وحوادث فقدان الذاكرة وحقوق المرأة التى تجاوزها الزمن والتهكم على المهن المختلفة بصناعة حواديت درامية تتسم بثقل الظل والإهانة لأصحابها أو تكرار قصص معادة وتقليدية عن فساد رجال أعمال لا تقترب من مواصفات الواقع وأحداثه التى تجاوزت خطورتها كل ما يعرض على الشاشة.
كان لا بد للدراما أن تكون فى مقدمة الوسائل التى تسهم فى إحياء مشروع تنويرى يبعث الحياة فى مفاهيم إصلاحية تدعم التوجه نحو حلم يسهم فى إعادة بناء الدولة والإنسان، وإحداث تقدم.. لا بد من نبذ الدراما للمفاهيم الفلكلورية المتخلفة، وهو ما نراه يحدث حاليًا خاصة منذ الموسم الدرامى الرمضانى الأخير.