رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو .. والاستراتيجية الإقليمية والدولية «7»


من الطبيعى أن نبدأ بقطب النظام الدولى الراهن، حيث يبدو أن الولايات المتحدة لم تدرك حتى الآن التغـيير الذى بـدأ يطرأ عـلى بنيان النظام الدولى أحادى القطبية، إذ تشير المتغـيرات الدولية والإقليمية بوضوح إلى تراجع النفوذ الأمريكى فى مقابل تصاعد الدور الروسى فى منطقة الشرق الأوسط.

تناولت فى المقالات السابقة تأثير ثورة 30 يونيو عـلى المعادلتين الإقليمية والدولـية، بادئـا بتأصيل مفاهـيم بعـض المصطلحات لتحديد ما إذا كانت أحداث 30 يونيو تندرج تحت مفهوم الثورة الشعـبية أم الانقلاب العـسكرى، ثم تناولت تأثيرهذه الثورة عـلى هاتين المعادلتين، وتم التركيزعلى القوى ذات التأثير المباشر عـليهما، ثم اقترحت بعـض الإجراءات التى ينبغى أن تتخذها مصر كى يتحقق استقرارها، وأهمها هو ضرورة إدراك جموع الأمة المصرية لأبعاد المؤامرة الدولية التى تتعـرض لها الدولة، مع ضرورة إدراك الحكومة أنها ليست حكومة مؤقتة أو انتقالية أو حكومة تسيير أعمال، بل هى حكومة تأسيسية تدير شئون الدولة فى فترة بالغة الدقة والتعـقـيـد، وعـليها أن تتخذ القرارات الحاسمة التى يمكن البناء عـليها، وضرورة التعامل مع الوضع الـداخلى لـلدولـة باعـتـبـارها كائـناً حياً له قلب «العاصمة» وجسد «بنيانها الرئيسى» وأطراف «الحدود»، وبالتالى ينبغى التخلص من الدرن الذى أصاب القلب أولا ، ثم صياغة سياسات داخلية وخارجية متوازنة تتسق مع عـمق المتغـيرات التى أحدثتها الثورة، خاصة فيما يتعـلق بالعلاقات الخارجية، وأهمية مراجعة حجم ونوع وأهداف مساعـدات الدول المختلفة، وفى مقال اليوم أستكمل شكل العلاقات الدولية والإقليمية فى ضوء التصعـيد الأمريكى والأوروبى والتركى والصمت المتعـمد إزاء الإرهاب الدولى ضد مصر، وفى ظل صعـود قوى عالمية يمكن أن تشارك الولايات المتحدة قمة النظام الدولى الراهن لتشاركها فى قيادة تفاعلاته.

ومن الطبيعى أن نبدأ بقطب النظام الدولى الراهن، حيث يبدو أن الولايات المتحدة لم تدرك حتى الآن التغـيير الذى بـدأ يطرأ عـلى بنيان النظام الدولى أحادى القطبية، إذ تشير المتغـيرات الدولية والإقليمية بوضوح إلى تراجع النفوذ الأمريكى فى مقابل تصاعد الدور الروسى فى منطقة الشرق الأوسط، ويبدو هذا التراجع واضحا أمام الموقف الروسى والصينى فيما يتعلق بالعـقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة والغـرب على إيران، كما يظهر هذا التراجع جليا فى تصميم روسيا عـلى عـدم إقصاء بشار الأسد مـن المعادلة السورية عـند مناقشة القضية فى مؤتمر جنيف المقبل، وتمركز بعـض قطع الأسطول الروسى قبالة الشواطئ السورية، كما لم تدرك الولايات المتحدة هدف الفتح التعـبوى لأسطول المحيط الهادى الروسى فى المياه الدافئة للبحر المتوسط لأول مرة منذ عـقود خلت، كما لم تع الولايات المتحدة أن مكانتها الاقتصادية تواجه تحـديـا من الأقـطاب الاقتصادية العـملاقـة، وهو ما يعـنى أن النظام الدولى الراهـن قـد بـدأ فى التحول ليكون نظاما متعـدد الأقطاب فى المستقبل القريب وإن لم تتبلور ملامحه بعـد، فهل يمكن لمصر أن تبنى سياستها بما يتسق مع هذه المتغـيرات لإقامة علاقات متوازنة مع هذه القوى الصاعـدة لتحقيق توازنها الاستراتيجية؟ أى مع روسيا والصين الحريصة عـلى التواجد أينما تواجدت الولايات المتحدة، إذ لا يستوى أن ينتظم النسق الدولى فى ظل هيمنة قـوة وحيـدة.

وتأسيسا على ذلك، يبرز سؤال يطرح نفسه تلقائيا على الساحة الدولية والإقليمية، وهو هـل تستطيع الولايات المتحدة الاستغـناء عـن موقع ودور الدولة المحورية التى تربط الشمال بالجنوب، وتصل الشرق بالغـرب، وتتحكم فى أهم مجرى ملاحى للتجارة العالمية، وتـحـتـوى على برزخ السويـس ومضـيـق باب المـنـدب اللذين يـفـصلان يـابـسة آسيـا عـن أفريـقـيـا «كنز المعادن الاستراتيجية»؟ وللإجابة عن هـذا السؤال ينبغى التذكير بأزمة العلاقات التى نشبت عام 1955عـلى إثر صفقة الأسلحة التشيكية إذ كان عـلى الولايات المتحدة أن تبذل الجهد والمال بالإضافة إلى الانتظار لأكثر من 20 عاما كى تسترد موقعـها مرة أخرى، والتذكيـر أيضا بأن الولايات المتحدة لم تكن تستطيع حشد التحالف الدولى الذى لم تشهده البشرية من قبل للدفاع عـن مصالحها فى منطقة الخليج وتحرير الكويت إلاَ بالبناء عـلى الموقف المصرى، فهل يمكن للولايات المتحدة ضمان أمن إسرائيل مستقبلا بعـد أن تتخلى عـن مصر، خاصة فى وجود العـناصر الجهادية التكفيرية على حدودها مع مصر؟

وفى إطار الحملة المحمومة التى تقودها الولايات المتحدة للتصعـيـد ضد مصر، حذر رئيس الاتحاد الأوروبى من إعادة النظر فى علاقات الاتحاد مع مصر، ما لم يتوقف العـنف وأن الاستخدام المفرط للقوة سيكون له عـواقب وخيمة ما لم يضع الجيش والسلطة المؤقتة حدا لذلك، إضافة إلى قرار كل من ألمانيا وإيطاليا بإيقاف توريد جميع صفقات الأجهزة والمعـدات العـسكرية التى كانت مصر متعاقدة عـليها، وهو الموقف نفسه الذى اتخذته بريطانيا من قبل، كما هدد رئيس الاتحاد باحتمال تعـليق المساعدات المقرر منحها لمصر، وهو الأمر الذى سيخلق فجوة واسعة فى العلاقات، ربما تستفيد منها موسكو وبيكين بما يعـزز وجودهما فى المنطقة، وفى هذا السياق أعـلن الأمير سعـود الفيصل أن هذا القرار قد يخلق فجوة أخلاقية وإنسانية ربما لا يمكن أن تنساها الدول العربية والإسلامية عـلى مر تاريخها، وأضاف أن الدول العربية ستعـمل على تعـويض مصر بقـيـمة هذه المساعـدات إذ إنه من غـير المقبـول أن يبنى الاتحاد الأوروبى مواقفه عـلى تقديرات خاطئة، وجاءت هذه التصريحات فى أعقاب زيارة وزير خارجية قطر لفرنسا مما يدلل على تأجج الحس القومى لدى السعـودية.

أما العثمانيون الجدد فعـجبا قولهم خاصة بعـد أن فقدوا رشدهم من تأثير صدمة ثورة 30 يونيو التى أدت إلى سقوط مشروعهم القومى لإحياء الإمبراطورية العـثمانية عـلى أن تكون ولاياتها تحت حكم التيار الإسلامى للتنظيم الدولى بما يتسق مع الاستراتيجية الأمريكية التى تهدف إلى إعادة هيكلة إقليم الشرق الأوسط الكبير بتقسيمه إلى منطقتى نفوذ، على أن تكون المنطقة شرق وجنوب البحر المتوسط منطقة نفوذ تركيا من تركيا شمال شرق المتوسط إلى المغـرب غـربا «سنُة» لتكون سوقا للمنتجات التركية كبديل للسوق الأوروبى، حيث تأكد العـثمانيون من عـدم قبولهم كعـضو طبيعى فى الاتحاد الأوروبى فخسرت تركيا السوقين معا، أما أخشى ما تخشاه تركيا فهو تأثرها بثورة 30 يونيو بحكم التقارب الجغـرافي‮ ‬والثقافى والتقارب السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وبحكم التاريخ المشترك ووحدة الدين والمذهـب، وهو ما يفسر لنا لماذا تُصر تركيا عـلى تشويه الثورة، ولماذا بدأ عـبد الله جول الظهور فى الصورة ليقدم خريطة طريق للخروج من الأزمة المصرية الطاحنة تتكون من أربعة محاور، الأول هو سرعة «العـودة للديمقراطية» «التى كانت جوهر حكم الرئيس المعـزول»، والثانى هو ضرورة مشاركة جميع التيارات فى عـملية الانتخابات القادمة، والثالث هو ضرورة الإفراج عن المعزول ورفاقه «حتى يتمكن من تنفيذ الاتفاقات التى تضمن هيمنة تركيا على ولاياتها وفقا للمخطط» أما المحور الأخير فهو عدم فض الاعـتصامات بالقوة «تماما كما حدث مع المتظاهرين فى حديقة تقسيم» وأن يحرص الجميع عـلى عـدم إراقة المزيد من الدماء، وهى المبادرة التى تضمن تحقيق أمن إسرائيل المطلق، وهو ما يفسر لنا لماذا تُصر الولايات المتحدة على تفعـيل التعاون الوثيق بين تركيا وإسرائيل «الذى لم ينقطع يوما حتى فى وجود التوترات الصورية التى حدثت بينهما» خاصة التعاون فى المجالات الأمنية والاقتصادية والعسكرية، أما منطقة النفوذ الثانية فتتكون من العـراق ودول الخليج «شيعة» وهو ما سيتم تناوله فى الأسبوع القادم بالإضافة إلى مواقف القوى الإقليمية الفاعـلة الأخرى بإذن الله، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.