رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والاستراتيجية الإقليمية والدولية «5»


..وينبغى ثالثاً رسم السياسات الداخلية والخارجية الجديدة التى تتسق مع عـمق المتغـيرات التى أحدثتها ثورة 30 يونيو، خاصة تلك التى تتعـلق بالعلاقات الدولية عالميا وإقليميا ومحليا.

تناولت فى المقالات الأربع السابقة تأثير ثورة 30 يونيو فى المعادلة الاستراتيجية محلياً وإقليمياً ودولياً، ففى المقال الأول تم تأصيل مفاهيم مصطلحات الشرعـية والمشروعـية والثورة الشعـبية والانقلاب العـسكرى كنقـطة انطلاق لهذا الموضوع، حيث أثارت تفاعلات أحداث 30 يونيو جدلاً واسعاً وردود أفعال متباينة حول ما إذا كانت هـذه الأحداث تندرج تحت مفهوم الثورة الشعـبية أم الانقلاب العـسكرى، وقد خلصنا إلى أنها كانت نموذجاً رائعاً لثورة شعـبية مكتملة الأركان، وفى المقال الثانى تناولت تأثير هـذه الثورة فى المعادلة الاستراتيجية الدولية والتركيز على الولايات المتحدة باعـتبارها القطب الوحيد الذى يتربع عـلى قمة النظام الدولى ويقـود تـفاعلاته، وفى المقال الثالث تناولت تأثيرها فى المعادلة الاستراتيجية الإقليمية والتركيز عـلى تداعـيات سقوط نظام حكم الإخوان المسلمين فى مصر عـلى القوى الإقليمية الفاعـلة فى الشرق الأوسط «تركيا وسوريا وإسرائيل وحماس»، وفى المقال الرابع تناولت تأثيرها محلياً فى مصر وبعض القوى الإقليمية القريبة من مصر شعـبياً ورسمياً، ثم تساءلت فى نهاية هذه المقالات عن الإجراءات الضرورية التى ينبغى اتخاذها كى تحقق مصر استقرارها السياسى وتستعيد دورها الإقليمى ومكانتها الدولية.

ففى اعـتقادى أن أول هذه الإجراءات هو ضرورة إدراك المحتوى الفكرى للمؤامرة الدولية متعـددة الأطراف التى تتعـرض لها الدولة، فهى مؤامرة أمريكية السياسة والتخطيط، صهيـونية الأهـداف، تركية الآليات، قطرية التمويل بالتحالف مع التنظيم الدولى للجماعة، وهى تقوم عـلى خمسة محاور، الأول هو تشويه تفاعـلات وأحداث 30 يونيو ووصفها بالانقلاب العـسكرى، والثانى هو الحشد فى رابعة العدوية والنهضة لتشكيل صورة ذهنية مغـلوطة لدى الرأى العـام العالمى بأن المجتمع المصرى منقسم عـلى نفسه إلى طرفين متساويين متكافئين، ويقوم المحور الثالث عـلى خطة إعلامية محكمة تم إعـدادها وتسويقها بواسطة شركات إعلانية عالمية، وتتبناها محطات فضائية تتمتع بمعـدلات مشاهـدة عالية توجَه رسائلها إلى أوروبا وأمريكا وأفريقيا والعالم الإسلامى، ويركز المحور الرابع على خفض وإحباط الروح المعـنوية للمجتمع المصرى بترويج الشائعات وتبنى أعمال العـنف لإرهابه، أما المحور الخامس وهو الأهم، فهو السعـى الدءوب إلى إنهاك وتشتيت جهود وقدرات القوات المسلحة لإضعافها، بعـد تعاظم كفاءتها القتالية وارتفاع روحها المعـنـويـة، خاصة بعـد أن استشعرت الولايات المتحدة عـمق إدراك القيادة العـسكرية لمسئولياتها الوطنية والأخلاقية والتاريخية لحماية الثورة.

وينبغى ثانيـاً التعامل مع الوضع الـداخلى لـلدولـة باعـتـبـار أنها كائـن حى له قلب «العاصمة» وجسد «بنيانها الرئيسى» وأطراف «الحدود»، وبالتالى ينبغى العـمل على التخلص من الدرن الذى أصاب القلب أولاً وتصفية مناطق الاعـتصامات، باتخاذ القرارات الحاسمة التى لا تصدر إلا من رجال أولى بأس شديد فى الوقت المناسب، فإذا صح القلب صح الجسد، وإذا صحَ الجسد صان الأطراف، مع الوضع فى الاعـتبار أن التنظيم الدولى للجماعة يخوض معـركته الأخيـرة للدفـاع عـن كيانه، إذ سيؤدى سقـوط الجماعة فى مصر إلى انهياره، ولذلك فمن المتوقع أن يـبـذل التنظيم الدولى قصارى جهده لجر مصر إلى سيناريو الجزائر الماضى أو سيناريو سوريا الراهن، حتى يستعـيد أوضاع ما قبل ثورة 30 يونيو بالتعاون مع تركيا وقطر، فالتنظيم الدولى يدرك جيدا أن الجماعة فى مصر لن تتمكن من الفوز فى أى انتخابات رئاسية أو برلمانية قادمة، حتى لو تم ذلك عـلى المدى البعـيـد، كما أن الولايات المتحدة لن تتقبل بسهولة تقويض استراتيجيتها فى إقليم الشرق الأوسط الكبير الذى جعـلت حدوده تتطابق مع حدود العالم الإسلامى، خاصة فى تلك المنطـقة التى ترتكز عليها فى شرق وجنوب البحر المتوسط «تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل فحماس ومصر وليبا وتونس وصولا إلى الجزائر والمغـرب» بعـد انفصال مصر رابطة عـقـد هـذه الدول ليبدأ انفراطه، وبالتالى ستسعى الولايات المتحدة إلى عـدم تمكين مصر من تحقيق استقرارها السياسى، وعـدم تمكينها من التعامل مع الملفات ذات الأهمية القصوى خاصة الأمنية والاقتصادية والعـدالة الاجتماعـية، بل ستسعـى حثيثا إلى إضعاف قوتها الشاملة بما يؤدى إلى إسقاطها من الداخل، تمهيداً لعـودة نظام الجماعة وعـلى رأسه القائد الملهم الذى سيحقق لها أهدافها، ويصون مصالحها وفقا للاتفاقات التى أُبرمت بينهما، حتى لو كان ذلك بالتعاون مع الإرهاب الدولى التى تزعم أنها تحاربه، حسبما تقتضى استراتيجيتها القائمة عـلى تحقيق مصالحها غالبا، وتفتقر إلى المبادئ والقيم دائما عـند تحقيق هذه المصالح.

وينبغى ثالثاً رسم السياسات الداخلية والخارجية الجديدة التى تتسق مع عـمق المتغـيرات التى أحدثتها ثورة 30 يونيو، خاصة تلك التى تتعـلق بالعلاقات الدولية عالميا وإقليميا ومحليا، فعـلى المستوى المحلى يتعـين إدراك أن ثورة 30 يونيو قد حددت بوضوح تام شكل وطبيعة العلاقات المستقبلية بين جموع الأمة المصـريـة، وبين أولئك الذين ينتمون لتيار الإسلام السياسى عـلى نحو عام، والذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين عـلى نحو خاص، وبالتالى فإنه ينبغى حل جميع الأحزاب التى تم تشكيلها عـلى أساس دينى منذ الآن لتجنيب البلاد الصراعات التى قد تنشأ مستقبلا، أما عن العلاقات مع الدول القريبة من مصر عـلى المستوى الشعبى والرسمى التى ساندت وأيدت مصر وأعنى بها: السعـودية والكويت والإمارات العـربية، فأتعجب من الموقف الغـريب الذى اتخذه المعـنيون فى الحكومة المصرية، فبدلا من تطوير هذه العلاقات واستثمارها بواسطة رئيس الجمهورية أو على الأقل من نائبه، نالت هذه الدول الثلاث زيارة من المستشار الإعـلامى لمؤسسة الرئاسة «مع احترامى الشديد لشخص سيادته»، وفى نفس الوقت سُمح لوزير خارجية قطر أن يلعـب دوراً أكبر من حجم دولته بانفراده بخيرت الشاطر فى محبسه، ليصرح بعـدها بأنه «يتعـين» على مصر الإفراج عـن الرئيس المنتخب وجميع قادة الإخوان المحبوسين على ذمة قضايا جنائية، وإسقاط جميع الاتهامات، مع عـدم ملاحقة الآخرين، حيث إنهم مفاتيح الحل، وهو ما يمثل قمة الانـدفـاع الـقـطـرى لكى تبرهن للعالم أنها قـفـزت إلى مصاف الدول الفاعـلة فى النسق الدولى، وفى هذا السياق يمكن التذكير بالحوار الذى دار بين رئيس وزراء قـطـر السابق، وبين مندوب روسيا الدائم فى مجلس الأمن عـنـد مناقشة الأزمة السوريـة وبثته القناة الفرنسية الثانية، حيث فاجأ الشيخ حمد المندوب الروسى بقوله «أحذرك من استخدام الفيتو بشأن الأزمة السوريـة، وعـليك أن توافـق على الـقـرار الذى سيتم اتخاذه، وإلا فإن روسيا ستخسر كل الدول العـربية»، فرد المندوب الروسى بهدوء شديد قائلاً: «إذا عـدت للحديث معى بهذا الأسلوب مرة أخرى فلن يكون هـناك شىء اسمه قطر بعـد اليوم، واعـلم أنك ضيـف هنا، فاحترم نفسك وعـد إلى حجمك، فإنى أتحدث باسم روسيا العـظمى مع الكبار فقـط»، كما أذكر بيتا من الشعـر وإن كنت للأسف لا أتذكر قائله يعبر تعـبيراً دقيقاً عن العلاقات التى نحن بصددها «جزى الله الشدائد كل خير، فقد عـرفتنى عدوى من صديقى»، وفى الأسبوع القادم بإذن الله نستكمل الحديث عـن شكل العلاقات التى ينبغى أن تكون عـليها مع كل من تركيا والولايات المتحدة وسط تهديداتهما المستفزة.. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.