رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو.. والاستراتيجية الإقليمية والدولية «3»


لولا مؤامرة الدول الأوروبية على محمد على باشا لكانت تركيا ولاية مصرية، أما أخشى ما تخشاه تركيا، فهو تأثر تركيا بثورة مصر بحكم التقارب الجغـرافى‮ ‬والثقافى، والقارب السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وبحكم التاريخ المشترك ووحدة الدين والمذهب.

فى المقال الأول تم تأصيل مفاهيم مصطلحات الشرعـية والمشروعـية والثورة الشعـبية والانقلاب العـسكرى كنقـطة إنطلاق لتناول هذا الموضوع، حيث أثارت التفاعلات التى سبقت وصاحبت وأعـقبت أحداث 30 يونيو جدلاً واسعاً صاحبه ردود أفعال متباينة، ودار هـذا التباين حول ما إذا كانت هـذه الأحداث تندرج تحت مفهوم الثورة الشعـبية أم الانقلاب العـسكرى، وقد خلصنا إلى أن العالم قد شاهد نموذجاً رائعاً لثورة شعـبية مكتملة الأركان لم تشهدها البشرية من قبل، وأظنها لن تشهدها من بعـد، وفى المقال الثانى تناولت تأثير هـذه الثورة فى المعادلة الاستراتيجية الدولية، وتم التركيز على الولايات المتحدة بحكم كونها قطباً وحيداً فى عالم اليوم تتربع على قمته وتقود تـفاعلاته، وفى هذا المقال نتناول تأثيرها فى المعادلة الاستراتيجية الإقليمية، لتبيان تداعـيات سقوط نظام حكم الإخوان فى مصر عـلى القوى الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، حيث ألقت ثورة 30 يونيو بظلالها عـلى جميع تنظيمات تيار الإسلام السياسى فى جميع الدول العـربية والإسلامية فى المنطقة خاصة تركيا لتعـلن بدء مرحلة أفول التنظيم الدولى للجماعة وسقوط مشروعه السياسى.

إذ يشير الواقع إلى أن حماس قد تأثرت كثيراً خاصة بعـد ثبوت تورطها فى كثير من القـضايا التى أضرت بالأمن القومى المصرى، فخسرت حلمها الكبير ببناء غـزة الكبرى، كما تعـيش مأزقاً سياسياً واقتصادياً واجتماعـياً صعـباً بعـد عـزل مرسى، ربما ينذر بحدوث متغـيرات تتصف بسرعة وكثافة تفاعـلاتها وقد تؤثر فى مستقبلها، وربما تؤثر فى القضية الفلسطينية كلها، أما إسرائيل فتُعـد خسائرها أكثر تعـقيـداً، حيث خسرت الجسر الذى كان يربطها بحماس بما يضمن أمنها واستقـرارها، واضطُرت إلى عـودة الجيش المصرى إلى شبه جزيرة سيناء والسيطرة عـليها بعـد أن فقدت هذه السيطرة جزئياً خلال حكم الجماعة، وتم حشد قوات تُـعـد هى الأكبر منذ انتهاء حرب أكتوبر 73، كما ستكون إسرائيل عـرضة للعمليات الإرهابية لجماعات الجهاد التكفيرى وعناصر القاعـدة، خاصة من أولئك الذين هربوا من سجـون العـراق، وقد يؤدى ذلك إلى قيام إسرائيل بتوجيه ضربة قاضية لحماس قبل أن تتعـرض لهذه الهجمات التى تقوم حماس بدعـمها لوجستياً ومادياً ومعـنوياً، وقد تستغـل إسرائيل طبيعة المرحلة القادمة عـندما تواجه حماس حصارا حقيقيا بعـد تدميـر جميع الأنفاق والتحكم فى معـبـر رفح ، وقد تعـمل إسرائيل على إسقاط حماس من الداخل بتقـليب عـليها فـلسطينيى القطاع الذين سيعانون من إحكام هذا الحصار، مع الوضع فى الاعتبار قرار الاتحاد الأوروبى الذى يقضى بوضع الجناح العسكرى لحزب الله على قائمة الإرهاب، وهو ما يعـنى توفير غـطاء سياسى من 28 دولة أوروبية لإسرائيل يسمح لها ضرب أى موقع لحزب الله فى لبنان، فإذا ما وضعـنا فى اعتبارنا عـدم قدرة كتائب القسام عـلى توجيه طلقة واحدة ضد إسرائيل بمقتضى الاتفاق الذى عـقـده الرئيس المعـزول بين حماس وإسرائيل بتعـليمات من البيت الأبيض الأمريكى، وإلتزام مصر بمعاهـدة السلام، وعـدم قدرة الجيش السورى المنهك عـلى توجيه أى عـمليات ضدها، لأدركنا على الفور مدى نجاح إسرائيل فى سعـيها صيانة أمنها من الشمال والجنوب.

ويشير الواقع أيضاً إلى أن الموقف السورى سيكون أكثر صعـوبة، ذلك أن السيناريو الرئيسى فى الاستراتيجية الأمريكية يهدف إلى تجريـد سوريا من مصادر وعـناصر قوتها الشاملة، خاصة قدرتها العسكرية بتدميـر جيشها باعتباره من أقوى جيوش المنطقة، ثم تسليم سوريا إلى جماعة الإخوان السورية، وللتدليل عـلى ذلك، يمكن التذكير بتفاصيل سيناريو التدخـل العـسكرى الأمريكى فى سوريا الذى طرحه رئيس الأركان المشتركة عـلى الكونجرس الأمريكى، حيث أعـلن أن هدف هذا التدخل هو شن الإغارات الجوية ضد مضادات النظام الجوى السورى، وتدمير القوات البحرية والجوية، فهل يرى الجنرال الأمريكى أن الأسلحة المضادة للطائرات والقوات البحرية هى التى تقتل المعارضة السورية، أم أن الهدف الحقيقى هو تدمير القدرات العسكرية السورية لصالح الكيان الصهيونى وحماية طائرات وقطع الأسطول الأمريكى التى ستشارك فى التدخل؟ وبالرغـم من ذلك فإن الإدارة الأمريكية تستعـد لتنفيذ السيناريو الأسوأ، وهو سيناريو تفتيت سوريا، المخطط تنفيـذه عـنـدما تحول متغـيـرات الموقف الإقليمى والدولى دون تدمير القدرات العسكرية السورية ودون تسليم سوريا للجماعة، وقد لاحت ملامح هذا السيناريو فى الأفق، إذ تمكن الأكراد من السيطرة عـلى منطقة رأس العـين شمال شرق سوريا، وأعـلنـوا تشكيل حكومة مؤقـتة لإدارة الإقليم، الأمر الذى تـعارضه تركيا بشدة، حيث يشكل تهديدا صريحا لأمنها القومى، خاصة إذا تمكن الأكراد من تأسيس كيان قومى واحد يضم داخله جميع الأكراد خاصة أكراد سوريا والعـراق، كما تمكن الجيش الحر من السيطرة عـلى بلدة «خان العـسل» الاستراتيجية الواقعة على الطريق بين حلب ودمشق، وهو ما يعـنى أن الجيش السورى الحر فى طريقه لاستكمال سيطرته على كل مناطق مدينة حلب، واستكمال سيطرته عـلى الريف الشمالى والغـربى، وبذلك يصبح شمال شرق سوريا للكيان الكردى، وشمال غربها للجيش الحر السنى، بينما تبقى دمشق وجنوبها تحت سيطرة النظام العلوى الشيعى، وبذلك تتأجج الصراعات العرقية والمذهبية والسياسية فى سوريا، لتدخل سوريا فى فوضى عارمة من الصعـب إن لم يكن من المستحيل الخروج منها، وهو نفس السيناريو الذى اتبعـته الولايات المتحدة مع العـراق.

وقد مثلت ثورة 30 يونيو كابوساً لتركيا، إذ أدت إلى إسقاط المشروع القومى للعـثمانيين الجدد، وهو إحياء الدولة العـثمانية، عـلى أن تصير ولاياتها تحت حكم التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، ويتطابق المشروع التركى مع المشروع الأمريكى لإعادة هيكلة إقليم الشرق الأوسط الكبير، حيث تُقسَم الاستراتيجية الأمريكية الشرق الأوسط الكبير إلى مناطق نفوذ للقوى الإقليمية غـير العـربية، على أن تكون المنطقة شرق وجنوب البحر المتوسط منطقة نفوذ تركيا وتبدأ من تركيا شمال شرق المتوسط إلى المغـرب غـربا، وفى هذا السياق يمكن التذكير بما أعـلنه داوود أوغـلو أمام البرلمان التركى فى 27 أبريل 2012 «نحن إزاء شرق أوسط جديد سينشأ فى المنطقة، وستكون تركيا قائـدة لتفاعلاته وناطـقة باسمه»، وهو ما يبرر أسلوب تعامل تركيا مع دول الربيع العربى، إذ تعاملها وكأنها تابعة للباب العالى خاصة مع مصر مركز الخلافة العـثمانية، فوصفـَت ثورتها بالانقلاب العـسكرى، واستضافت التنظيم الدولى للجماعة فى أنقـرة لإجهاض الثورة، وتمادت فى صلفها لتملى على السفير المصرى فى تركيا خارطة طريق يتعـين على مصر اتباعها، ونسى السلطان العثمانلى أن الجيش المصرى كان على أعتاب أسطنبول يوما يقرع أبوابها، ولولا مؤامرة الدول الأوروبية على محمد على باشا لكانت تركيا ولاية مصرية، أما أخشى ما تخشاه تركيا، فهو تأثر تركيا بثورة مصر بحكم التقارب الجغـرافى‮ ‬والثقافى، والقارب السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وبحكم التاريخ المشترك ووحدة الدين والمذهب.

هذا هو التصور الذى أطرحه للنقد والتحليل عن واقع تأثير ثورة 30 يونيو على المعادلة الاستراتيجية الإقليمية، وسوف أتابع تأثيرها محليا وعلى دول الخليج العربى فى الأسبوع القادم بإذن الله، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.