رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعود قبيلات: المسدس الذى اغتال رفيقى الشهيد لا يزال طليقًا

ناهض حتَّر
ناهض حتَّر

◄ استشهاده يذكرنى بـ«قصّة موت معلن».. وقتلته نفذوا الجريمة بكل خسة ودناءة ومكر وغدر
◄ اضطر لاقتطاع مترين من أمعائه بعد محاولة الاغتيال الأولى.. ورفض مغادرة بلاده للنجاة بحياته

التقيتُ برفيقي وصديقي المفكِّر والكاتب والمناضل الوطنيّ والتقدّميّ ناهض حتَّر، لأوَّل مرَّة، فى الجامعة الأردنيّة، عام 1977، وكان آنذاك مسئولاً بارزًا ونشيطًا فى اتّحاد الشباب الديمقراطيّ الأردنى، الذى كان قريبًا من الحزب الشيوعى الأردنى، وكنتُ مسئولاً مباشرًا عن الطلّاب الشيوعيين في الجامعة الأردنيّة وعضوًا فى اللجنة القياديّة العليا لقطاع الطلّاب في الحزب، وسرعان ما توطَّدت العلاقة بيننا وأصبحنا بالكاد نفترق.

في ذلك الوقت، كانت الأحزاب كلّها ممنوعة بموجب قانون الأحكام العرفيّة، باستثناء حزب «الإخوان المسلمين»، الذي كان الحزب الوحيد المصرَّح له بالعمل، ويمتلك مكاتب علنيّة ومؤسَّسات ومصالح اقتصاديّة منتشرة فى مختلف أنحاء البلاد.

بل إنَّه كان يُعَدُّ جزءًا من السلطة القائمة، وله حصّة فيها، خصوصًا وزارة التربية والتعليم التى أصبح معظم كوادرها، وخصوصًا أمينها العامّ، ووزيرها في كثيرٍ من الأحيان، من «الإخوان»، وقد جرى فى ذلك الوقت نفسه، إبعاد كلّ ألوان الطيف المعارض عن تلك الوزارة، وفي مقدّمتهم اليسار والقوميّون.
 
تذكِّرني قصّة استشهاد صديقي ورفيقي ناهض حتَّر بـ«قصّة موت معلن» لـ«ماركيز»، مع فارق أنَّ قَتَلَة «سانتياجو نصَّار» في القصّة نشروا مسبقاً وعلى أوسع نطاقٍ ممكن، خبر استعداداتهم الجارية لقتله بتفاصيلها الدقيقة في كلّ مكان من البلدة التي يشتركون معه في سكناها، أمَّا قَتَلَة «حتَّر» فقد سعوا إلى ذلك بكلّ خِسّة ودناءة ومكرٍ وغدر.

لقد كانوا يكمنون له في كلّ مكانٍ يعتقدون أنَّه قد يكون مناسبًا لاقتناصه منه، وهكذا ما إنْ «شَير» الكاريكاتير المسمَّى «ربّ الدواعش» والذى شيَّره آخرون كُثر غيره، حتَّى برزوا مِنْ مكامنهم ليقنصوه، ويصفّوا حساباتهم السياسيّة والشخصيّة معه.
لقد رتَّبوا بكلّ خبث، وبلا أدنى حدٍّ من النبل والفروسيّة، الظروف الملائمة لتجريده مِنْ كلّ أسلحته المشروعة، ليجد نفسه في النهاية أعزلاً ووحيداً في مواجهة المسدَّس الذي هيَّأوه لقتله، وبعد ذلك، وضعوه أمامه خيارين أحلاهما مرٌّ.

الأوَّل أنَّهم تركوا له منفذاً مفتوحاً لمغادرة البلاد والنجاة بنفسه مع بقائه مطلوباً للقضاء، وغايتهم مِنْ ذلك هي أنْ يقتلوه سياسيّاً وشخصيًّا بالقول إنَّه هرب مِنْ مواجهة القانون والقضاء لأنَّه يعرف أنَّه مدان وليس صاحب حقّ، وبالتالى، يحولون نهائيّاً بينه وبين الناس الذين كرّس حياته لهم، والثاني هو مواجهة قرار القتل الجسديّ الذي أصدرته فعليّاً وبلا محاكمة جريدة الإخوان المسلمين «السبيل» وجيشهم الإلكترونيّ، بمؤازرة صريحة وتناغم مفضوح مِنْ أرباب السلطة بمستوياتهم المختلفة.

وقد اختار ناهض، كما هو متوقّعٌ منه، أنْ يضع نفسه أمام احتمال القتل الجسدى، على أنْ يضع نفسه أمام خيار القتل المعنوى، وقرّر أنْ يبقى فى بلده الذي أحبّه إلى حدّ العشق، ومع الناس الذين كرَّس حياته كلّها للدفاع عنهم وعن حقوقهم وقضاياهم، وأنْ يذهب إلى المحكمة ليردَّ عن نفسه التهم الموجّهة إليه ويبرّئ ساحته نهائيّاً، لكنّ المسدَّس الغادر، الذي أُعدّ لاغتياله، كان يتربَّص به على أدراج قصر العدل، فحال دون وصوله إلى قاعة المحكمة.

بعد ذلك، عولج الأمر، كما هو معروف، وفق السيناريو الشائع فى أفلام الجريمة الهوليوودية، إذ تمَّ التخلّص مِنْ أداة الجريمة «المسدَّس البشرى» الذي انطلقت الرصاصات القاتلة بواسطته فى أوّل فرصةٍ سانحة. وبذلك أُسدِلَ ستارٌ كثيفٌ على القصّة الحقيقيّة المرتبطة به وبالجريمة التي نفَّذها، في محاولة مكشوفة للتستّر على طبيعة الجريمة وهويّة المجرمين الحقيقيين.

والمسدس ليس سوى أداة للقتل لا أكثر ولا أقلّ، أمّا المجرمون الحقيقيّون فهم الذين عبّأوا مخزن المسدَّس بالرصاص، وفكّوا صمَّام أمانه، وضغطوا على الزناد، أولئك لا يزالون طلقاء ويتمتَّعون بالسطوة والنفوذ ويفكِّرون بالعقليّة الإجراميّة نفسها تجاه كلّ صاحب رأيٍ مستنير وكلِّ إنسانٍ حُرٍّ وشجاعٍ يحاول التصدّى لفسادهم وتَجَبُّرهم. ولذلك فإنَّ دم ناهض لا يزال يصرخ على امتداد المكان والزمان.

والاستهداف بالقتل ليس جديدًا بالنسبة لـ«ناهض»، فحين فَتَحَ ملفّ الفساد والاستبداد فى العام 1998، بعثوا بلطجيّتهم ليكمنوا له ليلاً أمام بيته ويحاولوا اغتياله أمام أطفاله، وكادتْ تلك المحاولة أنْ تنجح حيث إنَّه خضع بسببها لعلاجاتٍ مكثّفة وجراحاتٍ دقيقة وتمّ اقتطاع حوالي مترين مِنْ أمعائه وظلّ منذ ذاك وحتَّى استشهاده مضطرًّا لتناول أدوية باهظة الثمن لكي يواصل الحياة ويواصل الكفاح مِنْ أجل وطنه وشعبه وأمّته.

وقبل هذا وبعده، تعرَّض «ناهض» للعديد مِنْ عمليّات الاعتقال، كما أنَّه تعرّض طوال الوقت للشيطنة على أيدي الفاسدين والمستبدّين وحلفائهم من المتاجرين بالدين، الذين يستغلّون عواطف الناس الدينيّة لخدمة أغراضهم السياسيّة الخاصّة.