رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من نيو مكسيكو إلى المدينة المنورة


فى ربيع ١٩٨٣، دعانى رجل الكونجرس الأمريكى الشهير «بيت ماكلوسكى» مع ابنى الصغير، الذى يهوى ركوب الخيل إلى «سانتا فيه santa fe» عاصمة ولاية نيو مكسيكو لمشاهدة الخيول العربية التى يربيها ويدربها السيد «شلافرز» الذى يناهز الثالثة والسبعين عامًا.
هذه الخيول جاء بها من مصر والسعودية، فقد كان محمد على باشا يهوى الخيول العربية ويحتفظ بأفضل سلالاتها و«قبيلة الرولة» شمال غرب المملكة العربية السعودية وبشكل خاص آل الشعلان وشيخهم الشهير فوزى الشعلان، الذى كان قد تبنى الألمانى (كارل رضوان) الذى كان يعشق الخيول العربية ويهتم بتربيتها، وكان يترجم ما بين القبيلة ولورنس العرب البريطانى وينقل الأخبار إلى ألمانيا، ثم انتقل كارل إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى «سانتا فيه»، وورثه فى خيوله وتراث آل الشعلان مستر شلافرز.
وصلنا إلى المطار العاشرة صباحًا من واشنطن العاصمة، فوجدنا رجل الكونجرس ومعه زوجته فى استقبالنا، وبعد أن انتهينا من إجراءات القدوم واستلام الحقائب، بادر بيت ماكلوسكى إلى حمل حقيبتى وسار أمامى إلى بوابة المغادرة.
عندها تذكرت كيف كنت أعيش فى المدينة المنورة حيث لا كهرباء، ولا شبكة مياه، ولا طرق مرصوفة، ويأتى اليوم الذى أرى فيه أحد صُناع السياسة الأمريكية والمرشح الجمهورى للرئاسة الأمريكية يحمل لى حقائبى، عندها ذرفت عيناى بالدمع، وتذكرت مقولة عمر بن الخطاب رضى الله عنه «إن الله أعزنا بالإسلام ولو أردنا العزة فى غيره لأذلنا الله».
كانت المدينة المنورة تتكون من عدة حارات، وكل حارة تنبثق منها أزقة، وكل زقاق تتفرع منه أحوشة، ومن أشهر الحارات حارة المناخة، وهى سوق المدينة التى أسسها النبى صلى الله عليه وسلم فى السنة الأولى من الهجرة بعدما فرغ من بناء المسجد النبوى، فكانت أول سوق حرة فى التاريخ لأنها لا يحجر فيها، أى لا تُبنى فيها دكاكين فتؤجر أو تباع ولا يؤخذ منهم خراج.
ومن المناخة تتفرع سوق الحَّبابة، وسوق القماشة، وشارع العينية، وشارع الساحة، وشارع السجمى، وباب الكومة، وزقاق جعفر، وحوش القايد، وحوش كرياش، وزقاق الطيار، وحى العنبرية، وحوش منصور، وشارع المحمودية وحى التاجورى.
فى نهاية شارع المحمودية ولدت، وكنت الثانى بعد شقيقتى الكبرى مائدة، كان منزلنا قريبًا من سور المدينة، ويطل على وادى بطحان هذا الوادى الذى يسيل من الشمال إلى الجنوب فيفترش الأرض فى الوادى حتى يلامس إلى السور.
كما يطل منزلنا على بستان المحمودية، وكان البستان عامرًا بالنخيل والأشجار، وبه بركة كبيرة مليئة بالماء فتسقى البستان، وكان إلى جوارنا من جهة الشرق بيت الجبهان ثم بيت الاسكوبى ثم بيت الحسينيات وهى أسر عُرفت بالعلم والأدب وكان منها الشعراء والفلكيون، ثم بيت الدبور الذى نشأ فيه وترعرع الدكتور الفاضل غازى عوض الله المدنى فى بيت خاله، والدكتور غازى هو صاحب الصالون الثقافى السعودى الشهير بمصر.
ومن أمامنا بيت بلبيط وإلى جواره بيت الديرى، ثم الشيخ زين أبوالفرج وكانت سيدة البيت عزيزة أبوالفرج امرأة برزة يعرفها سكان المحمودية ويحبونها ويستضيئون برأيها، ومع لفة الشارع على الزاوية بيت عم صالح المشهدى وكانوا من الشيعة ولم نفرق وقتها بين السنة والشيعة لأنهم لا تبدو منهم مخالفة لما نحن عليه من عقيدة أو فقه، وكانوا من أكثر أهل المحمودية كرمًا.
يأتى بعده بيت عبدالوهاب النجار الذى كان يصنع للأطفال الخذاريف، وتسمى اليوم المزويقة، وهى قطعة كمثرية من الخشب فى رأسها الرفيع يثبت مسمار يلف عليه الخيط ثم يبرم فتسقط القطعة الخشبية فتدور فإذا كان بها فتحات صدر منها صوت، وتجاور الشيخ عبدالوهاب عباسية جداوية هى الوحيدة التى أرضعتنى لأن والدى رحمه الله كان يتحفظ على الرضاعة، فلا يأذن بها إلا للضرورة.
كان والدى يعمل مديرًا لمدرسة النجاح، وكان لا يسير ذهابًا وإيابًا إلا بعباءته معتمرًا العقال الأسود، وكان عالمًا وقورًا مهابًا وصفه السيد محمد حسين زيدان بعد وفاته بمقال فى جريدة المدينة يقول عنه: إنه كان هيبة تمشى على الأرض، لهذا كان إذا جاء إلى الزقاق، قفلت الشبابيك، وتوارت النساء، ولا يسمع لهن صوت حتى يخرج إلى المسجد أو إلى عمله.
عندما كنت فى السنة الأولى من العمر كانت لدينا خادمة من ينبع، فكانت تهتم بى وتحبنى حبًا جمًا، وطالما كانت تأخذ الإذن من والدتى لتخرج بى إلى الشارع، وذات مرة لاحظت والدتى، أننى أمد يدى بالطلب فنبهت الوالد، الذى تتبع الأمر فوجد أن الخادمة تذهب بى إلى جوار الحرم وتتسول بى فاستبدلوها بأخرى.
وعند فم الشارع وإلى الشمال من حى المناخة، نجد مخازن العم موسى الحيدرى وكان من الآحاد فى المدينة الذى يلتحف بالعباءة، ويعتمر بعقال من القصب وكان يخزن التمر فى مخازنه ثم يبيعه بعد أن يحفظه فى صفائح من الزنك.
وكان فى صدر حى المناخة دار العم إبراهيم أبوالفرج وهو بناء مبنى من الحجر وبشرفات واسعة تمكن الجالس فيها أن يمتد بنظره إلى جزء كبير من حى المناخة، وإلى جواره كان هناك دكان أشبه بالبقالة التى تلبى احتياجات شارع المحمودية وهى التاجورى كان دكان الشيخ عبدالملك غلام، وكان ابنه حمزة يعمل معه فى الدكان، أما الثانى فهو الشيخ حسين غلام، وكان يعمل شيخًا لحارة التاجورى ومنزله على مدخل الحى، وكان إلى جانب المشيخة يربى مجموعة من الأبقار ويستخرج منها الألبان لتغطية احتياجات الحى.
فكان يمتلك حظيرة يضع فيها عشرات الأبقار ولا يُخرجها إلى الحى كى لا تزعج السكان، وذات يوم جاءوه ليخبروه أن إحدى الأبقار أكلت كثيرًا من الخبز الجاف ثم شربت الماء، فأصيبت بالتخمة وأصبحت على مشارف الموت.
فجاء ليعالج الأمر والتف الصغار والكبار ليروا ماذا سيفعل؟ هل سيذبح البقرة؟ أم يتولى علاجها؟، فأخرج من جيبه ورقة وغمسها فى الزيت ولفها، ووضعها فى دبر البقرة، ثم ولع فيها النار، فما أحست البقرة بالنار قفزت وأطفأت بديلها النار وظلت تغدو فى الزريبة حتى هضمت الأكل وعادت إليها صحتها.
اثنان من الأطفال أعجبا بالفكرة وقررا أن ينفذاها، انتظرا حتى ذهب الرجال إلى صلاة الجمعة، وخلت الشوارع من المارة وجاءا بالورق والزيت ووضعا الورق فى دبر كل بقرة ثم أشعلا النار فخرجت الأبقار من الزريبة تجرى فالتقت الأبقار المصلين من أهل الحى فأفزعتهم وأخذوا يهربون من البقر كى لا تدهسهم، غضب الشيخ حسين غلام وعرف الطفلين فأوسعهما ضربًا، وقرر بعدها ألا يعرض كل الأمور أمام الأطفال.
أما هذان الطفلان، فأحدهما قد تزوجتُ بأخته بعد أربعة وعشرين عامًا، والآخر أصبح من أصدقائى ومن رواد الندوة الثقافية التى كنت أحييها فى جدة، ظللنا فى بيتنا فى الحمودية خمس سنوات انتقلنا بعدها إلى باب المجيدى، وكان أكثر قربًا من الحرم.
أما الأحوشة، فقد كانت واسعة ومغلقة تحيط بها المنازل وعادة ما يكون فيها مخبز وبقالة، فكان الحوش عبارة عن مجتمع متكامل مصغر، يعرف فيه السكان بعضهم بعضًا، تطل الشرفات على ساحة الحوش حيث يلعب الأطفال تحت مراقبة الأهل لهم، كان السكان متآلفين ومتحابين، ويغلق باب الحوش ليلًا بعد صلاة العشاء لدواعٍ أمنية.
ومن أشهر الأحوشة فى المدينة حوش القائد بزقاق جعفر، وحوش الراعى فى العنبرية، وحوش أبودراع، وحوش منصور فى المناخة، فى هذا الحوش كان يسكن الشيخ أبوعنق شيخ الفرانة فى المدينة وكان بيته يستضيف أهل الحوش فى كل ليلة للعشاء لمن يرغب، فكان يذكرنى بعبدالله بن جدعان الذى لا تُطفأ له نار، وفى مجلسه تعرف النبى صلى الله عليه وسلم، الذى كان يغشى الدار بصحبة جده عبدالمطلب، فتعرف بأبى بكر وكانا صبيين، يقول عليه الصلاة والسلام: حضرت فى دار عبدالله بن جدعان حلفًا لو دعيت إليه فى الإسلام لأجبت، فكان ذلك حلف الفضول الذى تعاهد فيه بنوهاشم وبنوتيم وبنوزهرة على نصرة المظلوم ورد الحقوق إلى أصحابها.
فى حى منصور كانت تسكن امرأة فكهة يحبها ويستأنس بمجلسها الرجال والنساء، وكانت لها ابنة جميلة يحبها الناس بحبهم لأمها، فتزوجت برجل من بيت الأفندى وحملت منه وأخذ الناس فى المدينة يترقبون ولادتها.
ذات يوم عادت والدتى من زيارة مسائية ليلًا، وعندما مرت بجوار بيت السيدة زينب سمعت نواحًا، ما إن وصلت إلى المنزل حتى قالت للوالد رحمه الله إن فى بيت الأفندى نواحًا، فقال اذهبى وأعيدى الصبى ليخبرنى، فإذا كانت حالة وفاة ابقى معهم لمواساتهم.
ففوجئت الوالدة بأن الأم الحامل ماتت وجىء بمن يغسلها، وظلت المسئولة تغسلها وكانت امرأة شديدة القسوة، كان الغُسل يتم بمغراف لغرف الماء وكان من الحديد الثقيل، أثناء غُسلها شعرت بأن جنينًا فى أحشاء المرأة، فأخذت تضرب الجنين بالمغراف، وهو ينتقل من مكان إلى آخر وتتابعه وتضربه لتقتله، حتى مات فى أحشاء أمه، واصلت الغُسل فى جو مفعم بالحزن وكانت النساء اللاتى حضرن الغُسل يذرفن الدمع حزنًا على الجنين الذى قتل فى بطن أمه.
عادت الوالدة رحمها الله إلى أبى فى المنزل وقصت عليه القصة، فقال لا حول ولا قوة إلا بالله لقد كان الأولى لها أن تستدعى الطبيب لفتح بطن الأم لاستخراج الجنين أو أن تعمد هى إلى فتح البطن، إن ما فعلته يعتبر إزهاق روح دون حق.
ما إن كبرت وقصت علىّ والدتى ما حدث، حتى أخذ منى الحزن مأخذه، وما تذكرت ذلك المشهد إلا وغمرتنى الأحزان ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.