رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هدم السلطة القضائية.. وصراع السلطات الممتد


هذا التنوع وذلك التعـدد من شأنهما أن يعـملا على ازدهار الدولة وإثراء حياة الشعـب، ولكن هذا التنوع وذلك التعـدد يحتاجان إلى استقلال القضاء الذى يحكم بالحق من فوق منصته الشامخة، فيعـم العـدل وتسود المساواة ليحققا الاستقرار ويصونا الأمن ويُعـليا من شأن الأمة.. والله من وراء القـصـد وهو يهدى السبيل.

تمثل الرغـبة المحمومة للتحكم فى السلطة القضائية أسبقية أولى فى قائمة أولويات الجماعة لاستكمال الهيمنة عـلى الدولة إذ يمثل مشروع الهيئات القضائية القائم على الإقصاء والعـزل والتقاعـد قمة التوجه السياسى الجائر والتغـول على السلطة القضائية بعـد أن تحكمت الجماعة فى السلطتين التنفيذية والتشريعـية وبعـد أن تحكمت أيضا فى مؤسسات ووسائل وأدوات الجهاز الحكومى، وبذلك فقد أصبح الموقف بالغ الخطورة بعـد تكريس جميع السلطات فى يد الجماعة التى تتسم بغـموض التنظيم والتمويل والأفكار والرؤى، وفى يقينى فسوف تشهد الفترة الراهنة والمستقبلية أحداثاً تتميـز بسرعـة وكـثـافـة وتراكم تـفـاعلاتـها، إذ لا يستوى أن تنتظم الدولة تحت هيمنة تيار سياسى واحد، وسأتناول هذه التفاعلات فى سلسلة مقالات سأبدأها بمقال سبق أن تناولته فى هذا المكان تحت عـنوان «من عجائب الزمان هدم السلطة القضائية فى زمن الإخوان» بتاريخ 23 يناير 2013 ووجدت أنه من المناسب أن أبدأ هذه السلسلة بإعادة نشر هذا المقال الذى تساءلت فيه عـما إذا كان من الممكن أن يأتى حين من الدهر تسيطر فيه جماعة الإخوان على جميع مقدرات الدولة؟ وإذا كان ذلك ممكنا فكيف ومتى تتحقق ؟ وما مخاطر تحقـيـق هذه السيطرة؟ وكان ذلك تعـليقـا على ما قاله المرشد العام السابق للجماعة عـندما سُئل فى أحد البرامج التلفزيونية عـن رأيه فى المشهد الذى نعـيشه فى زمن الإخوان، فقال إن زمن الإخوان لم يأت بعـد، لكنه يمكن أن يبدأ عـندما يكون الوزراء والمحافظون والسفـراء و(القضاة)..إلخ جميعهم من الإخوان، أى عـندما تتمكن الجـماعة من السيطرة عـلى جميع وظائف الإدارة العـليا فى مؤسسات الدولة، وهو ما أكده الدكتور جـمال حشمت فى جريدة المصرى اليوم على اتهام الجماعة بالتكويش بأنه اتهام باطل حيث لايوجد رئيس مدينة واحد من بين 340 رئيس مدينة، ولا رئيس مجلس قرية من 4000 قرية من الإخوان، أى عـندما تسيطر الجماعة أيضا على وظائف الإدارة الوسطى، فإذا كانت الجماعة قد تمكنت من السيطرة عـلى كثير من هذه الوظائف والهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعـية بعد إسنادها لمجلس الشورى الذى تسيطر عـليه، وتحكمت فى جميع وسائل وأدوات الإعلام الحكومى، فهل يعـنى ذلك أن زمن الإخوان المسلمين قد أتى بالفعـل؟

وقد أجبت عن هذه التساؤلات بالآتى: فى اعـتقادى الشخصى أن الجماعة قطعـت شوطا طويلا لتحقيق ذلك، وبالتالى فإن السعى الدءوب للجماعة فى المرحلة القادمة سيتركز على الهيمنة على السلطة القضائية التى تأتى عـلى قمة أولوياتها لإستكمال التحكم فى والسيطرة عـلى مفاصل ومؤسسات الدولة، ولتحقيق ذلك فـقـد بدأت الجماعة فى افتعال صراع مرير بين السلطات بدلا من إحداث التكامل بينها، بدأته بصراع السلطة التشريعـية والتنفيذية فيما عُـرف بأزمة سحب الثقـة من حكومة الدكتور الجنزورى، ثم صراع السلطة التشريعـية والقضائية عـندما قضت المحكمة الدستورية ببطلان قانون الانتخابات الذى انصرف إلى بطلان مجلس الشعـب، فـصب أعـضاء المجلس جام غـضبهم على السلطة القضائية وأشاعـت الجماعة أن السلطة القضائية قـد وجهت ضربتها القاضية إلى السلطة التشريعـية، وتأجج الصراع عـندما قضت المحكمة بعـدم دستورية تعـديـل قانون مباشرة الحقوق السياسية بشأن العـزل السياسى، ثم صعـدت الجماعة هذا الصراع بعـد انتخابات الإعادة على مقعـد الـرئاسة ومارست الضغـوط النفسية والمعـنوية القائمة عـلى الاستـقـواء والترهـيب ضد المحكمة الدستورية واللجنة العـليا للانتخابات، وأعـلنت فوز مرشحها قبل انتهاء عمليات الفرز وقدم مرشحها خطاب تنصيبه رئيسا فى تحد سافر قبل أن تقوم اللجنة العـليا بإعلان النتائج الرسمية، وهو ما يمثل خرقا لجميع الأعـراف والمبادئ الديمقراطية، إلى أن جاءت أزمة بطلان تشكيل الجمعـية التأسيسية الأولى، واستمرارا فى التصعـيـد حاول رئيس اللجنة التشريعـية بالمجلس الذى أُبطل تشكيله اقـتحام مقـر المجلس، الأمر الذى يدلل على تعاظم ترهات الجماعة فى سبيل الاستحواذ والهيمنة على جميع السلطات والسعى الدؤوب للتحكم فى جميع مؤسسات الدولة، واستمرارا فى ممارسة الإستـقـواء والترهـيب تم تشكيل الجمعـية التأسيسية الثانية بنفس العـوار الذى أدى إلى بطلان الأولى، وتم إصدار الإعلان الدستورى المكمل الذى يتعـلق بعـزل النائب العام وتحصين الجمعـية التأسيسية وتحصين مجلس الشورى وعـدم جواز الطعـن عـلى قرارات وقوانين ومراسيم رئيس الجمهورية، ثم أشعـلـت أزمة تعـيين النائب العام الجديـد، وبعـد فاصل من التجبر والاستعـلاء زعموا أن إصدارهـذا الإعلان كان لإجهاض مؤامرة إنقلاب ضد الرئيس تم تدبيرها بواسطة القضاة، وهو اتهام جائـر لأولئك الذين يقضون بميزان العـدل لتحقيق استقرار الدولة وإقامة دولة القانون، ثم افتعـلت الجماعة أزمة عاتية بحصار الغـوغاء للمحكمة الدستورية قدس أقداس القضاء المصرى، وظل هذا الحصار قائماً حتى تحقق لهم ما أرادوا وأنهت الجمعـية التأسيسية صياغـة الدستور، وما يهمنا هنا هو ما يخص السلطة القضائية التى اعـتدى عليها الدستور اعـتداء سافرا، فجعـل من المحكمة الدستورية هيئة غـير مستقلة وحرمها من اختصاصها الأصيل فى المراقبة البعـدية للقـوانين وحدد عدد أعـضائها وعـزل بعـض من قضاتها، فلأول مرة يتضمن الدستور تحديد عـدد قضاة هيئة قضائية تفتخر بها مصر منذ نشأتها، ولأول مرة فى دساتير العالم لا يحتفظ فيه نص انتقالى بوضع قائـم، ولأول مرة يصدر دستور يقف فى وجه سيدة لا تخشى فى الحق لومة لائم، فاستحقت أن يُكتبت اسمها بأحرف من نور فى تاريخ مصر المعاصر.

وفى يقينى فإن ما تقوم به الجماعة تجاه السلطة القضائية يُمثل قمة التوجه السياسى الجائر لفرض سياسة الأمر الواقع وفرض الإرادة على الجميع،عـملا بمبدأ المغالبة فى قيادة وإدارة شئون الدولة، إذ يُعـد ذلك تحديا لجموع الشعـب مصدر السلطات، فما تقوم به الجماعة من ممارسات ما هو إلا نذير شؤم يهدد أركان الدولة ولا يعـزز من قدرها، فعـندما تعـمل الجماعة عـلى هدم السلطة القضائية لإقامة نظام قضائى جديد يتسق مع رؤيتها ويحقق أهدافها دون تغـليب المصلحة القومية العـليا، فإنها بذلك تعـمل عـلى الإسقاط المهين للدولة، فإذا كان الفصل بين السلطات واجباً، فإن استقلال القضاء ضرورة، فالاستقلال هو الذى يقيم دولة القانون ويرسخ قيم الحرية والعـدل والمساواة ويفعـل قيم الرسالات السماوية، وفى يقينى أيضا فإن أولى مخاطر الهيمنة وأكثرها تأثيرا تتمثل فى الانقسام الحاد فى صفوف الشعـب الذى ازداد إنقساما بعـد إجراء الاستفتاء على الدستور. وصفوة القول، أنه لا ينبغى هيمنة فصيل واحد على نظام سياسى يدير شئون دولة بحجم ومكانة مصر الضاربة بجذورها فى عـمق التاريخ، فالأنظمة السياسية المعاصرة فى المجتمعات المتقدمة يغـلب عـليها ظاهرة التنوع والتعـدد الفكرى.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد