رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملف العلاقات التـركية الإسرائيلية بين الاعـتـذار والقـبـول بالدور الأمريكى


والسؤال الآن ... إذا كانت هذه هى أدوات التأثير التى مارستها الولايات المتحدة مع تركيا، فما أدوات التأثير التى مارستها مع إسرائيل؟ سيكون ذلك هو موضوع الأسبوع المقبل بإذن الله.

تناولت فى المقال السابق دور الولايات المتحدة فى إعادة العـلاقات بين تركيا وإسرائيل، اللذين يمثلان محـورى ارتكاز تأمين استراتيجيتها فى منطـقـة الشرق الأوسط، عـندما أعـلن أوباما عـن المكالمة التليفونية التى اعـتذر فيها نيتانياهو لأردوغان عـن مقـتـل تسعة أتراك كانوا على متن السفينة مرمرة واستعـداده لتقديم التعـويضات لأسر هؤلاء الضحايا، وأشرت إلى سعـى الولايات المتحدة إلى توطـيـد هذه العـلاقات حسبما تقتضى مصلحتها القومية، إذ تخشى الولايات المتحدة أن تفقد تركيا مثلما فـقـدت إيـران الشاه، كما تخشى أن تفقد توازنها الاستراتيجى مع القوى العـظمى الصاعـدة «روسيا وريثة الاتحاد السوفييتى والصين تنين القرن21» وتفقد اتـزان قـواعـد تواجدها بالمنطقة، وأشرت إلى مخاوف تركيا من نظام الأسد ، فهى تخشى تصدير الإرهاب إلى أراضيها وبالتالى عـرقـلة معـدلات نموها الذى يعـتبر محور نهضتها، كما تخشى تأجيج الصراع العـرقى بتأليب الأكراد، وإحياء الخلاف العـقائدى بين العـلويين والشيعة الجعـفـريـة وبين السنة، كما تخشى تنامى العـبء الأمنى والإدارى والاقتصادى الملقى عـلى عاتقها مـن قضية اللاجئين السوريين، وانتهى المقال إلى توضيح العـلاقة بين عـملية نشر صواريخ «باتريوت» عـلى طول حدودها مع سوريـا وبين قرار الكونجرس الأمريكى برفع حظر تصدير الأسلحة وإمداد المعارضة السورية، وقرار فرنسا وبريطانيا بإمداد الجيش السورى الحر بالسلاح، حتى إذا ما تم ذلك تمكنت شبكة الصواريخ من إحداث منطقة حظر جوى على غـرار ما تم فى ليبيا حتى إسقاط نظام الأسد، وتسليم سوريا لجماعة الإخوان لتضمن أمن إسرائيل من الشمال مثلما ضمنته مع مصـر فى الجنوب، وبذلك تكتمل هـيمنة تيار الإسلام السياسى على دول الربيع العـربى، إذ إن هـذا التيار كفـيـل بهدم أركان الدول وإحداث الفوضى التى تسعى إليها الولايات المتحدة وتسعـد بها إسرائيل، وفى هذا المقال سأتناول أدوات التأثير الأمريكية عـلى تركيا لإحداث هـذه المصالحة.

يشير الواقع إلى أن الولايات المتحدة قد أدركت أن لعـبة المصالح قد أصبحت هى اللعـبة السياسية التى تلعـبها تركيا وتجيدها، إذ تسعـى إلى نيل رضاء جميع أطراف معادلتها الاستراتيجية، وهو الأمر الذى جعـل معادلتها الاستراتيجية بالغة الدقة والتعـقـيـد، فإستغـلت الولايات المتحدة تأثيرات تفاعـلات المتغـيرات الدولية والإقليمية التى تعـتبر هى طرفا فيها إن لم تكن هى مُحدثـتها وقائـدتها للضغـط على تركيا اقتصاديا وسياسيا وعـسكريا وأمنيا، فمارست الضغـوط الاقتصادية على تركيا باستغـلال تفاعلات الأزمة المالية العالمية وتفاعـلات دول الربيع العـربى خاصة فى مصر، وعـظمت تأثيراتها السلبية فى المقدرة الاقتصادية لتركيا، باعـتبارها المقدرة التى تتمحور حولها الآن عـناصر القوة الأخرى لتحقيق نهضتها، كما استغـلت الولايات المتحدة حالة الارتباك والفوضى والانكشاف الأمنى والانفلات السلوكى فى مصر، وقامت بدور الوسيط بين إسرائيل وتركيا لتصديـر منتجاتها من الموانئ الإسرائيلية بـدلا من الموانئ المصريـة، واستغـلت أيضا ما جاء فى تـقـريـر هـيـئـة المسح الجـيـولـوجى الأمريكية «2010» الذى أكد وجود خزانات عـملاقـة فى الـطـبـقات العـمـيـقـة لمياه البحر المتوسط قبالة السواحـل الشرقـية والشمالية الشرقـية تحتوى عـلى مخـزونـات ضخمة من الغـاز الطـبـيـعى فى صورتيه الغازية والسائلة، وأن هـذه المخزونات تفـيـض كـثـيـرا عـن حاجة الدول المتشاطـئـة عـلى هـذه السواحـل من حيث استخدامات الطاقة أو التصنيع، فقامت بمساعـدة إسرائيل عـلى استخراج الغاز الطبيعى بسرعة فائقـة من حقل «تمار» على نحو يكفل لإسرائيل تحقيق الاكتفاء الذاتى ويحررها من تبعـية الدول المنتجة، ثم قامت بالتلويح لتركيا بأنها إن لم تعــد علاقاتها مع إسرائيل عـلى نحو طبيعى وإن لم تتعاون معـها فى تنمية هذه الخزانات، فسوف تكون خارج الحسابات الاستراتيجية والترتيبات الاقتصادية الجارى تنفيذها، خاصة تلك التى تتعـلق بمد خط أنابيب الغاز إليها من مناطق استخراجه بإسرائيل وتصديره إلى أوروبا، لاسيما أن الدولـة اليهـوديـة تستهدف من تنمية هذه الخزانات العـملاقـة أن تكون إحدى القـوى الكبـرى فى تصديـر الغـاز الطـبـيـعى.

ونأتى إلى أدوات التأثير الأمنية والعسكرية التى مارستها الولايات المتحدة مع تركيا فكانت عـن طريق إقـناعها بأن خطط تطوير القوات المسلحة التركية «التى تعـتبـر القوة الثانية بعـد الولايات المتحدة فى حلـف الناتو» وخطط رفع كفاءتها القتالية تعـتمد اعـتمادا كليا على التكنولوجيا الإسرائيلية بحكم التراخيص License الممنوحة لإسرائيل من الشركات الأمريكية الخاصة بتصنيع الأدوات والمعـدات الإلكترونية المعـقـدة Avionics التى تتعـلق بتحسين قدرات الطائرات التى يتم تصنيعـها فى تركيا «F16» أو تلك التى تستـوردها من شركات أمريكية «لوكهيد، بوينج» خاصة طائرات نظام الإنذار والسيطرة المحمول جوا AWACS الإيواكس Airborn Warning And Control System التى عـقـدت تركيا صفقة ضخمة منها مع شركة بوينج، وفى الوقت نفسه ولحبك الدور التى تلعـبه هذه الشركات، قامت شركة بوينج بتهديد إسرائيـل بإيقاف التعاون التكنولوجى إن لم يتم تسوية خلافاتها مع تركيا وقيامها بتجهيز هذه الطائرات بمقتضى العـقـد المبرم مع الجانب التركى، إذ يعـتبر نظام الإنذار والسيطرة المحمول جوا AWACS مهماً جدا لمنظومة الأمن القومى التركى، حيث لا يرتبط هذا النظام بمراقبة كل ما يدور فى سوريا فحسب، بل يرتبط أيضا بإستكمال الشبكة الإلكترونية التى تتعـلق أيضا بتوفـيـر الحمايـة من الصواريخ الباليستية ضد الـقـواعـد الجـويـة الرئيسية «كورتشك ـ إنجرليك» التى يستخدمها الطيران التركى والمجهزة لاستقبال جميع أنواع طائرات حلف الناتو، وفى هـذا السياق يمكن التذكرة بأن هاتين الـقاعـدتـيـن تعـتبـران من القواعـد الرئيسية التى استخدمتها قوات الناتو فى مناوراتها السنوية «نسر الأناضول» التى كانت إسرائيل تشارك فيها بصفة أساسية قبل أن يتم استبعادها بعـد المواجهة التركية الإسرائيلية فى مؤتمر «دافوس» على إثـر العـدوان الإسرائيلى عـلى غـزة.

وقبل أن أتناول أدوات التأثير السياسى التى مارستها الولايات المتحدة على تركيا، يتعـيـن أن أشيـر إلى أن هـذه الأدوات قامت عـلى أساس إقناع الجانب التركى بعـمق تأثيـرات المتغـيـرات الإقليميـة، خاصة تلك التى تتعـلق بالتحالفات والتحالفات المضادة والتوازنات والتوازنات المضادة التى تشهدها المنطقة، إذ إن هناك تحالفا يكاد يكون عـضويا بين إيران وسوريا وحزب الله وربما حماس، مدعـوما بحليفـين دوليين هما الصين وروسيا فى مواجهة تحالف دول الناتو التى هى عـضو أساسى فيه، كما أن هناك ارتباطا استراتيجيا يربط إسرائيل والولايات المتحدة، وبالتالى فإنه من غـير المقبـول أن تكون إسرائيل بمنأى عـن تحقيق الـتـوازن الاسـتراتيجى بالمنطقة، أو تكون بمعـزل عـن ترتيبات صياغـة الشرق الأوسط الجديـد، كما أنها أى تركيا قد أصبحت الـوجـه المقـبـول لدى جميع الأطـراف الـتى يمكـنها تـنسيـق جـمـيع هذه الترتيبات، الأمر الذى يتعـين معـه ضرورة استعـادة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مسارها الطبيعى، بل والعـمل عـلى تطويرها مستقبلا، كما أنهما ـ أى إسرائيل وتركيا ـ لا يـسـتطـيعان الاسـتغـناء عـن أو إيـقـاف بـرامـج الاتـفـاقـات الأمنـيـة والعـسكـريـة والاقـتـصاديـة الـموقـعـة بـيـنهما والـجـارى تــفـعــيـلـها بـالـفـعــل، الأمر الذى يلزم معـه التعاون الوثيق بينهما.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.