رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدخل لتحديث الثقافة المصرية «2-3»

نشرنا بالأمس الجزء الأول من دراسة المفكر نبيل عبدالفتاح حول الثقافة المصرية، وتوقفنا عند المحور الرابع حول الفجوات بين الوعى الرسمى وبين تغيرات الثقافة عالميًا، حيث يرى أن هناك عدة أسباب لهذه الفجوة من ضمنها ما يلى:

٣- لم تعد مفاهيم الجمال والجميل فلسفيًا واجتماعيًا وأمثلته للرجال والنساء كما كانت، ثمة حالة استعراضية رقمية للأجساد الكيرفى، والمشوهة فى التكوين الجسمانى، وفرضها لإثارة الغرابة، وأنها عادية، وأن البدانة والترهل، ليسا استثنائيين، ولا قبيحين، والاستعراضات جزء من إثبات الذوات الاستعراضية الجسدانية لذواتها، وأن بها بعضًا من الإثارة الشبقية، فى ظل سرعة استهلاك الإثارة الجسدية الجنسية، من الأجساد والأعراف والوجوه، والأوضاع والألوان.. إلخ، والإنتاج السريع والمكثف للأشرطة الإباحية، ومواقعها! وأيضًا سعى الأجساد الضخمة للحصول على المال من الشركات الرقمية الكبرى.

٤- أن نظرة على استعراضية الأجساد الكيرفى، والممتلئة، والمترهلة، وإبرازها على إيقاعات الرقص والموسيقى، والحديث المباشر، فى فيديوهات، أو صور، تشير إلى ظاهرة انكشاف الذات عبر الجسد الأنثوى، وأعضائه من الوجوه، والصدور، والنهود الضخمة، والبطون المترهلة العارية، على المثال الهندى فى الزى/ السارى- والظهور العارية، والمؤخرات المتضخمة، وغيرها من استعراضات الأجساد التى تبدو غير عادية، هى محاولة من هذه الذوات، لتأكيد ذاتيتها، من خلال الفعل الاستعراضى الجسدى، لإعادة التصالح مع هذا الجسد الذى يبدو مغايرًا للمألوف والعادى من الأجساد فى الشارع، والعمل، والصور الفوتوغرافية، وأفلام السينما. هى محاولة لجعله عاديًا، ومألوفًا، من خلال تحويل الغرابة، وتصحيح- فى المنظور السائد للجمال الجسدى- إلى العادى، الموجود والحاضر فى الحياة، ولكى يتم تقبله دون إشاحة للوجوه، ودونما تعبيرات سلبية فى النظرة إليه، هذا بخلاف السعى إلى تسليعه رقميًا عبر المتابعات بقطع النظر عن رأى المتابعين لهذه الاستعراضات، والكلمات، والرقص، وإظهار بعض الأعضاء وأحجامها غير المألوفة وغير العادية، إنها استعراضات لحضور الذات، وسعيها الحثيث كى يتم قبولها من الجماهير الرقمية الغفيرة، بوصفها عادية، وليست غريبة، حتى مع توظيف الغرابة فى تحقيق هدفها فى أن تكون عادية، وجزءًا من العادى فى اليومى- هذا التوجه الجسدى الاستعراضى- أيا كان لونه وعرقه- يحاول أن يحقق حضوره من خلال اللعب، وبعض الكوميديا فى الرقص والحركة والموسيقى، أو من خلال حركة الجسد، وتعبيرات الوجه الموحية بالإثارة الجنسية، كلها فيديوهات طلقة ساعية للعب تحقيقًا للعادى، أيا كانت أهدافها المالية من الشركات الرقمية الكبرى.

٥- هذا التوجه الجسدى الاستعراضى بات سمت وسائل التواصل الاجتماعى، وبات الجسد، وحركته وعلاماته الإثارية يسعى إلى توظيف بعض إثاراته غير المألوفة- مؤخرات ضخمة دونما ملابس داخلية لكنها مغطاة، وتبرز ما وراء الغطاء فى الحركة داخل حيز مكانى محدود كالمطبخ، وذلك لإعداد وجبة طعام عادية، ومألوفة وبسيطة ولا تحتاج لإعدادها لشروح، لكن هذا ليس الهدف الأساسى، وإنما حركة الجسد وبعض أعضائه التى تكسر المألوف، وتثير بعض الإثارة لدى المتابعين! فى Reels and Short videos هذا الاتجاه الذى ساد فى وسائل التواصل الاجتماعى لم يعد قاصرًا على الهنود، وبعض الأفارقة، وبعض الأوروبيات، والروس.. إلخ.

وإنما انتقل إلى بعض النساء فى مصر، والعالم العربى وأصبح بعضهن يقلدن نظرائهن فى الهند، وإفريقيا، وأمريكا، سعيًا وراء المتابعات والمال، ومن ثم تحولت هذه الاستعراضات الجسدية وعلامات الإغواء إلى جزء من السلع المرئية، وهى جزء من تشكلات الثقافة الرقمية الجديدة، وبات تأثيرها سائدًا، بل إن بعضها من الأجساد العارية، والعلاقات الحميمية العارية، جزء من بعض المواقع الإباحية سعيًا وراء المال، وهى تحويل الحميمى إلى سلعى فى عديد البلدان العربية، بقطع النظر عن أن هذا السلوك مؤثم قانونيًا، فى هذه الدول، إلا أن ذلك يشير ليس فقط إلى أن هذا بعض من سلوك الجانحين من النساء والرجال، وإنما الجرأة فى استعراض الجسد فى شهوانيته، وحميميته وعريه، إلا أنه تعبير عن التحول من السلوك الواقعى والفعلى فى الحياة إلى سلوك على الواقع الافتراضى يرمى إلى الحصول على المال، أو جذب الزبائن خارج القانون.

٦- مثل هذه التغيرات السلوكية تشير إلى التغير فى القيم الاجتماعية والأخلاقية، وتحول الجسد الأنثوى إلى سلعة فى السوق، أو على وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية.

٧- الثقافة الرقمية ستحدث تحولات فى الثقافة السائدة حول الجسد فى تمثلها السريع، واستهلاكها، ولو على سبيل المشاهدة السريعة، إلا أن استمراريتها، وتكراراتها ستؤديان إلى بعض الملل من مشاهدة هذه الاستعراضات للأجساد الرقمية للجموع الرقمية النسائية العادية، وتستمر إلى حد ما ظاهرة الصور الرقمية للأجساد الجميلة الممتلئة للشابات صغيرات السن موضوعًا للاستهلاك.

هذا الاتجاه يبدو مؤثرًا على ثقافة الجسد، وضرورة العناية ببعض جمالياته، من قبل بعض المتلقين من الفتيات والنساء، وسيؤدى إلى بعض المصالحة بين الذات والجسد فى عدد من المجتمعات، لا سيما المجتمعات العربية، ومنها مصر على الرغم من نظام الزى السعودى والخليجى مثل الإسدال الذى انتشر طيلة أكثر من خمسين عامًا مضت، كتعبير عن طقوس التدين الشعبى وتحولاته المحافظة، مع الحجاب، والنقاب، وكأداة للضبط الذكورى للجسد الأنثوى، والسيطرة عليه ووضعه فى سياجات نظام الزى، والحجاب، والنقاب.

هذا النمط من السيطرة الذكورية عبر نظام الزى كان من إحدى استراتيجيات الجماعات الإسلامية والسلفيين وجماعة الإخوان المسلمين، وغالب الأزهريين، من أجل تدين المجال العام من خلال الزى، وهى من استراتيجيات التمدد من أسفل. بعض الفتيات والنساء فى أعتاب ٢٥ يناير، وبعد استبعاد الإخوان من السلطة، خلع بعضهن الحجاب، وأصبحن سافرات. الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، مع تخفيض قيمة الجنيه المصرى إزاء الدولار والعملات الأجنبية، وارتفاع معدلات التضخم، والغلاء، ستؤدى إلى خلق بيئة مواتية للعودة إلى بعض أشكال التدين الشكلى، فى المجال العام من خلال النقاب- مع استمرارية الحجاب- وقراءة بعضهن القرآن بصوت عال فى عربات المترو، وهو أمر لا يبدو عفويًا، وإنما عمل فردى فى إطار منظم، يظهر حينًا فى الأزمات والاحتقانات الاجتماعية، ويختص مع الصدام مع أجهزة الدولة الأمنية، والسلطة السياسية الحاكمة. مع هذه التغيرات الاجتماعية مع نمط التدين الشعبى السائد، إلا أن ذلك لا يمنع استهلاك، وتمثل الثقافة الرقمية حول الجسد، أو الصور، أو المنشورات السريعة، ولا يجد بعهضم/ هن غضاضة فى العمل الدعوى الرقمى من خلال المنشورات، والتغريدات، واستهلاك الصور، والفيديوهات حول الجسد الأنثوى، لأنه يبدو بعيدًا عن عيون الآخرين فى نظرهم. بينما الشركات الرقمية تبث هذه الصور والفيديوهات القصيرة والطلقة حول الأجساد أيًا كانت أحجامها، وشكلها، من حيث الجمال، أو القبح!

هناك أيضًا ازدياد استهلاك المواقع الإباحية وانفجارها بالأفلام، والأجساد، والأعمار، والوجوه، والأعراق، والألوان، والأوضاع، على نحو ما يبرز من نسب استهلاك هذه الأفلام عربيًا، حيث تأتى السعودية أولًا، ومصر ثانيًا، وهو دلالة على اتساع معدلات استهلاك هذه الأفلام فى ظل سطوة تدين شكلى واسع النطاق، فى طقوسه، ولغة الخطابات اليومية!

٨- المشاهدات الرقمية للصور، والفيديوهات الطلقة، والأفلام الإباحية، لها انعكاسات عل المشاهدين لها، من حيث التغير فى إدراك الجسد الأنثوى، وأيضًا فى اعتياد التغيير فى الوجوه والأجساد والألوان، وهو ما يؤدى إلى الملل فى العلاقات داخل نظام الأسرة، بل قد يؤدى إلى إحباطات فى العلاقة الجسدية بين الزوجين، وقد يدفع إلى علاقات خارج الأسرة، أو موازية لها، أو إلى الفشل الزواجى، والطلاق الذى ترتفع معدلاته فى مصر، والسعودية وغالب الدول العربية، أسباب متعددة، وليست قاصرة فقط على المشاكل الاقتصادية التى تواجهها الأسرة، أو بطالة الزوج فقط.

٩- فى هذا الإطار يذهب عالم الاجتماع الروسى سيرجى كارا مورزا فى كتابه التلاعب بالوعى- منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ترجمة عياد عيد، ٢٠١٠- إلى أن «التلاعب بالوعى هو استعمار المتلاعب لشعبه، إن الهيمنة عبر التأثير الروحى فى الناس وبرمجة عقولهم وسلوكهم وحتى طريقة كلامهم وردهم، واستعمال الصور النمطية «Sterotype» للتلاعب بنفسية المشاهدين والتأثير على مخيلتهم هى اليوم تدق ناقوس الخطر لفئة محدودة الفكر والمستوى المعرفى والزاد العلمى.

إن التلاعب بالوعى ليس بالعنف، بل بالإغراء والعاطفة حتى يبدون وكأنهم يرغبون أن يغرر بهم فيكون لهم وهم الإدراك خاصة إذا كان الممثل ممتعًا محترفًا فإن اكتشاف الخداع، والتلاعب يصير أمرًا صعبًا أو مستحيلًا فمن أبرز مؤشراته:

- التأثير المخفى: يجب أن يبقى التلاعب غير ملحوظ ونجاحه مضمونًا حين يؤمن به المتلاعب به.

المعارف الكبرى: المهارة البديهية الهائلة والقدرة على التلاعب بوعى المحيطين به.

(انظر موقع الجمعية العربية لعلم الاجتماع، على الواقع الافتراضى- الفيسبوك - ٨/١١/٢٠٢٢). 

ما ذهب إليه سيرجى كارا مورزا، يشير إلى دور الدولة وجهازها الأيديولوجى على نحو ما كان فى النظم الشمولية والشيوعية، أو بعض الجماعات على الآخرين، إلا أن حالة احتلال الوعى، أو الأحرى الاحتلال الناعم للوعى والإدراك فى عصر الجموع الرقمية الغفيرة، يتم من خلال أدوات الثورة الرقمية، والسرعة الفائقة فى استهلاك المنشورات والتغريدات، والصور، والفيديوهات، ويقوم بعض الجماعات، أو الشركات، أو الأفراد بتوظيف هذه الأدوات فى التأثير على الجمهور المخاطب- من الأجيال الشابة وغيرها من الأجيال الأكبر سنًا- من خلال ترسيخ صور ذهنية متغيرة، قد تتحول إلى نمطية، وخاصة الفيديوهات الطلقة والقصيرة كتغيير مفهوم الجمال، العلاقة البصرية مع الجسد الضخم، والمترهل، والقبيح، ومفهوم الجنس وأوضاعه.. إلخ.

وفى إشاعة أنماط من التدين الوضعى، سواء فى شكل دعوى أو تبشيرى، أو صراعى مع أفكار مضادة من داخل الدين أو المذهب أو من خارجه، أو ترويج أفكار إلحادية، أو لا أدرية.. إلخ.

١٠- محاولة الاحتلال الناعم للوعى الفردى أو لدى الجموع الرقمية الغفيرة، يشكل تحولًا فيما يمكن أن نطلق عليه سياسة احتلال الوعى السلطوية إلى سياسة احتلال الوعى الفردى، ولدى الجموع معًا ليس فى الأمور والشئون السياسية السلطوية، وإنما فى كل تفاصيل الحياة اليومية نحو مزيد من كثافة الاستهلاك للسلع والخدمات، فى ظل رأسمالية نيوليبرالية متوحشة، عمادها الآن، ورأس حربتها هى الشركات الرقمية الكونية، وتوظيفها لعالم البيانات الضخمة Big data، ومن خلالها تعاد صياغة الوعى، والسلوك الاجتماعى، وأساليب التفكير، والاستهلاك من قبل الشركات الكبرى فى عديد تخصصاتها.

من هنا يلعب الإغراء، والإغواء، والتحبيز دورًا مهمًا فى إعادة تشكيل الوعى، والسلوك الاجتماعى والاستهلاكى، من هنا كما يقول سيرجى كارا مورزا «إن الإنسان لا يصير ضحية للتلاعب إلا إذا كان منخرطًا فيه بصفته مساهمًا فى تأليفه ومشاركًا به، ولا يتحقق التلاعب إلا إذا أعاد الإنسان بناء وجهات نظره وآرائه ومزاجه وأهدافه تحت تأثير الإشارات الحاصل عليها، وبدأ يتصرف وفقًا للبرنامج، أما إذا ساوره الشك وعاند ودافع عن برنامجه (الروحى) فإنه لا يغدو ضحية». (المرجع السابق ذكره).

١١- يمكن القول إن وضعية وسائل التواصل الاجتماعى تشير إلى أن الشخص، والجموع الغفيرة، والمجموعات أيًا كانت، هم ضحية للشركات الرقمية الكبرى، وبعض الجماعات الرقمية، والشركات، ولكنهم فى ذات الوقت مشاركون فى إنتاج واستهلاك المنشورات، والتغريدات والصور، والفيديوهات، من ثم يلعبون دورًا مزدوجًا، دور الضحية المغوية المشاركة.. بإرادتها، ودور الفاعل الذى يحاول أن يؤثر على الآخرين، ووعيهم، وذائقتهم، وأفكارهم.. إلخ.

من هنا نحن أمام تغيرات نوعية فى ثقافات العالم والجموع الغفيرة، والأشخاص، بالمعنى العام للثقافة، وهو ما ستظهر آثاره الزلزالية التالية فى التحول إلى عصر الإناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان حيث ستغدو مثل هذه الملاحظات والتحليلات بل ولغتها جزءًا من ماضٍ أفل، ولن يعود معالجًا لتفسير تحولات الثقافة فى عصر الروبوتات.

١٢- مع نهاية عصر السرديات- الحكايات- الكبرى، وفق جان بودريار، ومعها التحول إلى ما بعد الأيديولوجيات وعالم التشظى، والتدنى، والعودة إلى الذات المنقسمة على ذاتها، فى عالم من السيولة، والنزعة المشهدية فى السرد، والتفكير، والوعى ثم مع الرقمنة التحول إلى عصر الحكايات الصغيرة الموجزة، والمكثفة التى تدور حول الذات، وصورها وانكشافاتها، واستعراضاتها، وغواياتها، وكرهها وشرهها، وبعض من نبلها، تحولت الذات- أيًا كانت- إلى مركز من مراكز العالم، وأسئلته وهواجسه، وهمومه، هى مركز الألم، والفرح، والرغبات.

١٣- تراجع الحكايات التاريخية حول القومية، والقبلية، والعشيرة، والأسرة، وقادة السياسة وزعمائها، وشاعت بعض من السرديات المصطنعة، والأكاذيب حولها، ومن ثم أثر ذلك على السرديات الوطنية الجامعة، ومعها رموز الانتماء الوطنى، واللامبالاة بمثل هذه السرديات، أو التشكيك فيها، ورفضها، والقدح فيها، وعدم مصداقيتها.

١٤- الاستعراضات من خلال الصور والفيديوهات والمنشورات- السطحية والتافهة والتى تعتمد على توظيف وقائع يومية- لم تعد جزءًا من عالم الجموع الرقمية الغفيرة، وإنما بات بعض المشهورين نسبيًا، وأنصافهم، وعواجيزهم من الفنانين الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات، ومعهم الصحف والمواقع الرقمية يستخدمون بعض الترهات، والأكاذيب، وبعضًا من استعراضات الملابس الكاشفة عن بعض أعضاء الجسد، أو الموحية بالإثارة، والخروج عن المألوف، لكى يكونوا جزءًا من عملية ترويج شهرتهم الجزئية أو الأكبر قليلًا فى ظل سرعة استهلاك ما يطلق عليهم «النجوم» على نحو فائق السرعة، وبات الطلب عليهم بالغ السرعة قد لا يتجاوز سنة أو أكثر فى الأعمال السينمائية، وكذلك الأمر بالنسبة للمطربين والمطربات، والأعمال الموسيقية، التى يزداد استهلاكها فى سرعة، وسرعان ما يحل محلهم آخرون، وبروز نمط من الإزاحة داخل كل جيل من الأجيال، ولم يعد الاستمرار فى الظهور والذيوع خلال جيل واحد.

١٥- هناك تركيز على لعبة كرة القدم الأكثر شعبية فى عالمنا، ومن ثم على نجومها الكبار- أيًا كانت جنسياتهم- وخاصة فى المسابقات الكروية داخل البلدان الأوروبية، كالدورى البريطانى، والفرنسى، والإيطالى، والألمانى، والإسبانى، والمسابقات الأوروبية. هنا اللاعبون الكبار يستمرون للفترات التى يؤدون فيها أداءً عاليًا من حيث المهارات، والأداء، وتسجيل الأهداف، وصنع الألعاب. وسائل التواصل الاجتماعى، باتت كرة القدم الأوروبية، وفى أمريكا اللاتينية، هى مركز من مراكز اهتمامات الجموع الرقمية الغفيرة، ومتابعة المباريات على مواقع رقمية، ويمكن استقبالها ومشاهدتها على الهواتف المحمولة المتطورة، وأيضًا الأهداف المسجلة فى المباريات، والتعليقات المتخصصة فى تحليل اللعبة والأداء. من هنا أصبحت صور كبار اللاعبين، وبعض الفيديوهات حول حياتهم، وأسرهم وزوجاتهم، وصديقاتهم موضعًا للاستهلاك والمشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعى.

لاشك أن ذلك عزز على نحو مكثف اللعبة الجماهيرية الأولى كونيًا، وأدى ذلك إلى تحول المشاهدة والاهتمامات نسبيًا من المسابقات المحلية ومشاهدتها إلى المباريات الكبرى والدورى فى المسابقات الأوروبية فى كل بلد، أو على المسابقات الأوروبية الكبرى.

١٦- أن نظرة على أثر التحول إلى الفضاءات الرقمية وتنوعها على ثقافات العالم.. بالمعنى التايلورى الأنثروبولوجى- تشير إلى الميل إلى الاستهلاك السريع، والمكثف، والسطحية، وعدم العمق، والتحول إلى ما بعد الحقيقة، حيث المعلومات الخاطئة، أو غير الدقيقة، أو السرديات التأويلية حول الوقائع التاريخية، وإسناد آراء ذاتية لها أهدافها إلى بعض كبار الأدباء، والسياسيين، والمفكرين على غير الحقيقة، والإيهام بأمور لا ظل لها من الواقع الموضوعى، أو نشر بعض الأخبار الذائفة على أنها حديثة.. كل هذه الأفعال الكتابية، والصور، ونشر فيديوهات عن مظاهرات، وكأنها حدثت فى يوم بثها على وسائل التواصل الاجتماعى، ولكنها قديمة، ويعاد استخدامها لإحداث أثر سياسى لدى المتلقين والمستهلكين لها.

هذا يشير إلى حدوث فجوات بين الثقافات الكونية، وبين تاريخها فى جميع المجالات، والسرديات، والأساطير وأيضًا بين الثقافة الرفيعة، وثقافة الاستهلاك السطحية فائقة السرعة.

هذا الأثر وتحولاته بات يهمش الثقافة الرفيعة فى كل مكوناتها، ومعها الفكر الفلسفى، والسوسيولوجى، والقانونى، والنظريات النقدية، ومن ثم التحول من العمق، إلى السطح، والسطحية، فى ظل تدهور مستويات التعليم، ومناهجه فى بلادنا، والعالم العربى وغالب البلدان الإفريقية على سبيل المثال.

وهذا مرجعه كما ذكرنا فى موضعه من هذه الدراسة، وفى دراسات سابقة، إلى انفجار الذوات الرقمية للجموع الغفيرة، فى التعبير عن ذواتها، وآرائها فى كل شىء، أو قضية ما، أو مشكلة، أو واقعة سياسية أو جنائية، أو سلوكية.. إلخ، بقطع النظر عن معرفة جذورها، وتطوراتها، وخباياها، وأطرافها!

من ناحية أخرى الانكشاف فى كل شىء، من خلال التصوير بالهاتف المحمول كل الوقائع فى الشارع، والمنزل، والمركبات الخاصة، والعامة، فى التنصت، وفى الهجوم على الحسابات الرقمية- الهاكرز hacker المتسلل إلى الحاسوب- وتصوير الجيران، وتصوير طوارئ الطبيعة. انكشاف شبه كامل لأوجه الحياة. من ثم نحن أمام تحولات سوسيو- ثقافية، واسعة النطاق.

هناك تشابهات، ومشتركات فى أثر التحولات الرقمية على مسارات هذه الثقافات، إلا أن ثمة بعضًا من الخصوصيات والتمايزات فى أثرها على مفهوم العمل مثلًا، بين الثقافات الأورو- أمريكية، والصينية والآسيوية، مقارنة بالثقافات العربية، ومصر حيث العلاقة بالعمل كقيمة، وأسلوب حياة مختلف، وأيضًا العلاقة مع الزمن كسولة، ولا مبالية، وتفتقر غالبًا للجدية، والكفاءة مع استثناءات محدودة، نظرًا لطبيعة السلطة، وتاريخها الغشوم، وأيضًا الطابع القدرى السائد فى التدين الشعبى وأنماطه الريفية، والبدوية.

١٧- تمدد النزعات الإلحادية، واللاأدرية على مواقع التواصل الاجتماعى، وبروزها فى مقابل المواقع التبشيرية والدعوية من الأديان والمذاهب المختلفة، ودفاعها عن عقائدها وطقوسها وسردياتها التاريخية الوضعية فى مواجهة الأديان والمذاهب الأخرى، من الأديان السماوية، أو الأديان الوضعية، هذا الاتجاه الغالب يمثل توظيف المؤسسات والسلطات والجماعات الدينية لوسائل التواصل الرقمية فى صراعاتها مع بعضها بعضًا من الأديان السماوية وغيرها فى ظل عدد من الديانات فى العالم اليوم- بحسب موقع «موضوع» يقدر بأكثر من ٤٠٠٠ ديانة منها خمس رئيسية يعتنقها ما يقارب ٧٥٪ من سكان العالم من بين هذه الخمس الديانات الثلاث السماوية.

١٨- التغيرات الرقمية، والذكاء الصناعى سيساهمان فى تغيير الثقافات المتعددة فى عالمنا، وخاصة مع الأجيال الجديدة، ولن تقتصر تأثيراتها على الدول الأكثر تطورًا، وإنما ستمتد إلى جنوب العالم، وستؤثر على الثقافة السياسية الشمولية والتسلطية، وستهز أسسها، وتزلزلها، على الرغم من رسوخها، وأيضًا فى الديمقراطيات التمثيلية الغربية، وفى العالم.

لن تستمر هياكل وآليات الديمقراطية الغربية كما هى، وخاصة فى ظل ضعف مستويات التكوين لدى القادة الغربيين مقارنة بنظرائهم فى القرن العشرين، من حيث رأسمالهم السياسى الخبراتى، وخيالهم السياسى وأدائهم فى السياسة الداخلية، والدولية.

فى الدول الشمولية، والتسلطية، وعلى الرغم من أنظمة الرقابة الرقمية الأمنية، ومتابعتها للواقع الافتراضى، إلا أن خطابات السخرية، والنقد اللاذع تنال من مكانة القادة السياسيين، وآرائهم، وكذلك الأمر فى الأنظمة الديمقراطية التمثيلية، على نحو يؤدى إلى التشكيك فى مصداقيتهم، وسياساتهم، والكشف عن الأكاذيب التى يروجونها فى خطاباتهم السياسية، من هنا سيشهد العالم قبل الأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان، تغيرات فى النظم السياسية على اختلافها.

لن تقتصر التغيرات الحزبية والسياسية، وفق الآليات الانتخابية، وقواعدها المقررة، وإنما ستدخل الاستفتاءات أثناءها، لكى يعبر الناخبون عن آرائهم فى السياسات التشريعية، والقوانين قبل المواعيد المقررة للانتخابات.

لاشك أن الرقمنة أثرت، وستؤثر على الثقافة السياسية الديمقراطية، وغيرها الشمولية والتسلطية فى الأنظمة التى لا تزال سائدة، وخاصة فى عالمنا العربى. خاصة فى ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية فى بعض هذه الدول، وأيضًا فى دول اليسر النفطى، وخاصة مع الأجيال الجديدة.

١٩- الفنون التشكيلية، والسينما، والموسيقى تتأثر بالذكاء الصناعى والروبوتات، ويتم توظيفها فى العمليات الفنية، وهو ما يشير إلى كثافة استخدامها فى المستقبل، وهو ما سوف يؤثر على بعض الوظائف فى الجماعة السينمائية على سبيل المثال، ولن يتم الاحتياج لبعض هذه الوظائف مستقبلًا، ذات الوضع فى الفرق الموسيقية، لن تحتاج إلى كامل العازفين والآلات الموسيقية فى التسجيلات، والحفلات Life، هى أمور تؤشر إلى عالم مختلف بدأ، وتلوح معالمه فى الأفق الكونى.

٢٠- هذه التحولات الرقمية، والثورة الصناعية الرابعة، وأثرها على الثقافات، ولدى الأشخاص، والجموع الرقمية الغفيرة، يبدو إدراكها، والوعى بها، محدودًا جدًا، واستثنائيًا سواء لدى السلطة السياسية، أو السلطة الثقافية الرسمية، وبعض الجماعات الثقافية فى مصر، وبعض البلدان العربية، من ثم بروز الفجوات بين إدراك تحولات الثقافات العالمية المتعددة، وما يحدث من تحولات فى الثقافة الرقمية، والثقافة من أسفل لدى الكتل «الجماهيرية» من الجموع الغفيرة العقلية، والرقمية.

٢١- جمود العقل السياسى والثقافى حول تحولات الثقافة العالمة وثقافة الجموع الغفيرة- أيا كانت فئاتها الاجتماعية واستثناءاتها- هو علاقة أزمة كبرى، فى التنمية، والسياسات العامة، وفى غياب الإدراك السلطوى بأهمية الثقافة، والقيم فى عمليات التنمية، وفى تنشيط وتحريك المكون البشرى وفئاته، وهذا ما يمثل إحدى أكبر مشاكل العقل السياسى فى عالمنا العربى، ومعه أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية، وهو ما يبرز فى حالة البيروقراطية الثقافية فى مصر، منذ عديد العقود، لاسيما فى جمودها، وافتقاد غالبها إلى الحركية، والقدرات فى الإدارة الثقافية، وفى إنتاج الأفكار الخلاقة، وأيضًا فى متابعة التحولات الكونية، والإنتاج الثقافى والمعرفى وشخوصه، وردوده فى الإقليم العربى، وإفريقيا جنوب الصحراء.

من هنا تشكل هذه التحولات صدمات لغالب العقل الثقافى المصرى، ومؤسساته، وأجهزته الرسمية، وأيضًا للجماعات الثقافية، والفنية، وعدم متابعة تحولات عاصفة فى ثقافات عالمنا.