رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان جانا «٥»

المعراج الصوفى

تعتبر الرحلة جزءًا أصيلًا من التجربة الروحية عند المتصوفة، وهى على مستويين: 

السفر الأول حسى: يسعى فيه لتصحيح موقفه تجاه الله فيما يتعلق بالاعتقاد: «مقامات: الخوف، الرجاء، اليقين، الإخلاص، المراقبة، الذكر، التوبة، التقوى...»، ومن الخلق فيما يتعلق بالأخلاق والمعاملات «مقامات: الصدق، الحياء، السخاء، الفتوة، الرحمة، الصبر...».

السفر الثانى قلبى أو روحانى: يترقى خلاله المتصوف فى مقامات لا ترتبط إلا بمستوى العمق فى معرفة الذات الإلهية، وإدراك معانيها وأسرارها؛ إنه سفر وجدانى لا يتحدد مجال تحركه، بل هو داخل ذات الشخص. 

يقول أبوالمواهب التونسى فى «رسالة حكم الأشواق»: «الرحلة رحلتان: رحلة الأرواح ورحلة الأشباح، فرحلة الأرواح من الكثافة إلى اللطافة، ورحلة الأشباح من مسافة إلى مسافة».

يقول ابن عطاء الله فى حكمه المعروفة: «لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك».

ويرى ابن عباد الرندى فى «غيث المواهب اللدنية» أن: «السير إلى الله تعالى هو قطع عقبات النفس، ومحو آثارها ودواعيها، وغلبة أحكام طبيعتها وجبلتها حتى تطهر من ذلك، وتحصل لها أهلية القرب من الله تعالى، وتصل إلى سعادة لقائه؛ ولولا معاناة هذه الأشياء لم يتحقق السير والسلوك». 

وقد خصص «ابن عربى»، فى كتابه «الفتوحات المكية» بابًا سماه «الباب الحادى والتسعون ومائة فى معرفة السفر والطريق»، أوضح فيه مسائل السفر القلبى وشروطه وأدواته ومراحله وغاياته، وما إلى ذلك.

فالسفر بالمعنى الصوفى يكون رمزًا للمزيد من التطهر والقرب، والتحول الروحى، فتأخذ الرحلة عند المتصوفة طابعًا رمزيًا ومعنى عرفانيًا يتصل بالمعرفة الحدسية «الذوقية» والكشف والتجلّى، وقطع عقبات النفس، والترقى فى الأحوال والمقامات الصوفية، للوصول إلى حقيقة العلم بالله تعالى، والاتصال بالأنوار والأسرار، وهو ما يعبّر عنه الصوفية بـ«الحضرة الإلهية»، وهى غاية السالكين ومنتهى سير السائرين إلى الله سبحانه.

فالمتصوف فى سفر مستمر وهو غريب على الدوام يتنقل من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام، لا يزال يرتقى على الدوام ولا يقف مع شىء، وكلما ارتقى منزلة سعى لما هو أكمل منها، فالدنيا بالنسبة له منام مستمر، والعالم كله ظل الوجود الحقيقى للذات الإلهية، وهو يفعل ذلك لعمق إحساسه بقصور قواه المعرفية، ومحدودية مجال تحركها، فتتنامى لديه عبر مراحل التجربة رغبة جامحة فى الانعتاق من ذلك القصور البشرى، مما يستدعى بالضرورة القيام برحلة تختلف مستوياتها، بغية استكشاف الغائب غير المدرك.

وبهذا تكون الرحلة الصوفية- بجميع تجلياتها «سفر القلب، سفر البدن»- بحثًا متواصلًا عن إمكانيات تجاوز حدود الإدراك البشرى القاصر، وشكل من أشكال التطلع البشرى إلى تحقيق مفهوم: «الكلية» فى المعرفة والقدرة والحضور.

وقد ذهب ابن عربى بعيدًا فى تعميق مفهوم الرحلة عبر تأسيس ما يسمى بـ«المعراج الصوفى» فى كتابه «الإسراء إلى المقام الأسرى»، حيث يشرع فى رحلة قلبية، ذهنية على نمط الرحلة النبوية «التى توجه فيها الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس، ثم إلى عالم السماء»، يفتتحها بـ: «باب سفر القلب».

فى هذه الرحلة يتنقل المؤلف- المسافر بين السماوات «السماوات هنا تعبير عن المقامات» من الأولى إلى السابعة، ويجرى فى كل سماء حوارًا مع النبى الذى يقيم فيها كل حسب مقامه: سماء الوزارة: نبيها آدم، سماء الكتابة: نبيها المسيح، سماء الشهادة: نبيها يوسف، سماء الإمارة: نبيها إدريس، سماء الشرطة: نبيها هارون، سماء القضاة: نبيها موسى، سماء الغاية: نبيها إبراهيم، فيستلهم منهم الإشارات والتعليم.

ثم يرتقى إلى «سدرة المنتهى»، ثم إلى «الكرسى»، ثم إلى «الرفارف العلى»، ليصل إلى «مقامات المناجاة»: مناجاة: قاب قوسين، مناجاة: أو أدنى، مناجاة: اللوح الأعلى، مناجاة: الرياح وصلصلة الجرس، حضرة: أوحى، مناجاة: الإذن، مناجاة: التشريف والتنزيه، مناجاة: التقديس، مناجاة: المنة، مناجاة: التعليم، مناجاة: أسرار مبادئ السور، مناجاة: جوامع الكلم، مناجاة: الدرة البيضاء.

ويختمها بمناجاة موجهة إلى أرواح الأنبياء فى شكل إشارات مخصصة لكل واحد منهم حسب مقامه: مناجاة: أنفاس النور، الإشارات الآدمية، الإشارات الموسوية، الإشارات العيسوية، الإشارات الإبراهيمية، الإشارات اليوسفية، الإشارات المحمدية.

وهى كلها عبارة عن رحلة روحية، ذهنية، رمزية، متكونة من محطات سفرية بقصد التأمل والحوار، والاستمداد من روحانية الأنبياء، وضعها ابن عربى فى قالب فنى ورمزى بالغ العمق فى الدلالة والإيحاء. 

فالرحلة الروحية ومحاولة الإنسان الانفصال عن العالم المحيط لفترة تستغرقها رحلته، تتخذ أشكالًا متعددة ومتنوعة باختلاف المعتقدات والمذاهب لدى كل البشر، ورغم اختلاف صورها، إلا أن حقيقتها واحدة، وهى سعى الإنسان للتواصل مع خالقه ومع البشر المحيطين به بالصورة المثلى، بما يحقق له الراحة والسلام. 

وكل عام وأنتم بخير.