رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم الشهيد

منعنى طارئ صحى من حضور احتفال القوات المسلحة بيوم الشهيد، لكن قلبى كان هناك يخفق مع الشهداء وينحنى احترامًا لهم.. جلست أراقب قصص الشهداء التى جسدتها تمثيلية ومسرحية قصيرتان وكأننى أشاهد مصر أخرى.. أو وكأننى أشاهد مصر الحقيقية.. مصر التى تم تغييبها، واختطافها وتشويه صورتها، فى مركز المنارة كنت أشاهد أناسًا يشبهون المصريين.. رب أسرة مدرس وربة أسرة موظفة، لهما ابن ضابط وابنة مهندسة، مواطنون يشبهوننا ونشبههم، هذه مصر لا يدخن حكامها السيجار ولا يتناولون عشاءهم فى ماكسيم ولا يملكون الطائرات الخاصة.. هذه مصر الشهداء، والشرفاء، والبنائين.. مصر التى ما زالت صورتها تجمع بين بقايا الماضى وبين نقاء الحاضر.. الشهداء هم صورة مصر الحقيقية، الشهيد هو الذى يهتم بالمعنى ولا يبالى أن يموت من أجله، يدرك أن الجسد مجرد أداة ويضحى بحياته من أجل أن يحيا اسمه والمعنى الذى يقاتل من أجله، الشهداء يعبرون عن روح مصر الحقيقية، عن المعنى الكامن فيها، يعبرون عن المقاتلين بألف طريقة من أجل الحياة، عن الصوفية والزاهدين، عن الفقراء الذين يتحرون الحلال فى كل قرش يدخل لهم، عن الآباء الذين يفنون حياتهم من أجل تربية أبنائهم وحمايتهم من شرور الحياة، عن الأمهات اللاتى يعطين كل شىء ولا يحصلن على أى شىء، العمال الذين يعملون بشرف، المثقفين العظام الذين منحونا عصارة عمرهم ولم يجنوا سوى القليل، الفلاحين فى جيش عرابى الذين قاوموا الغزو بدافع الواجب، المتظاهرين ضد الاحتلال، الفدائيين فى منطقة القناة، شهداء الهزيمة والنصر، وشهداء الحرب ضد الإرهاب فى سيناء، آخر قطفة فى عنقود الشهادة.. هذه هى مصر الحقيقية، بئر عميقة مليئة بالكنوز والدرر.. مصر ليست هى النخب الفاسدة ولا سماسرة التمويل ولا تجمعات المصالح الصغيرة ووكلاء رشوة الإعلاميين، ولا شلل الفساد فى كافيهات المهندسين، هذه بثور طفت على وجه مصر.. طحالب عفنة طفت على وجه البئر العميقة، إفرازات فاسدة من زمن ظن فيه الفساد أنه سرق مصر قبل أن يخيب أمله ويفسد مسعاه.. فى زمن ما شرّق الفساد وغرّب، صال هنا وهناك، لكنه وقف ذليلًا على أبواب جيش مصر، ظل الجيش جيش المصريين العاديين، أبناء مصر العادية، أبناء الشرفاء أيًا كان وضعهم الاجتماعى، أو العائلة التى ينتمون إليها، وحين استدعى الأمر لم يكن غريبًا عليهم أن يتقدموا للشهادة بكل حب وود وسهولة، لأنهم أبناء المعنى لا أبناء المبنى، أبناء الجوهر لا أبناء المظهر، أبناء الحلال لا أبناء الحرام.. لقد كان الشهداء فى الحرب على الإرهاب أغلى ما قدمته مصر كى تصل لحالة الاستقرار التى هى عليها اليوم، بفضل دمائهم عاش الملايين فى أمان، وبفضلهم أخضعت مصر العصاة وأتى المتآمرون صاغرين، كل تضحية نقدمها اليوم لا تساوى قطرة دم واحدة قدمها شهيد، لايجوز أساسًا المقارنة بين معاناة الاستغناء عن سلعة أو خدمة وبين تضحية أسرة شهيد، مقارنة ظالمة بين الثرى وبين الثريا، بين ما هو مادى زائل وبين ما هو روحى لا يزول، ندفع جميعًا ثمن صراعات تُفرض علينا ومؤامرات تُحاك لنا، وأشكال مختلفة لصراعات لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لكن تضحية الشهداء وأسرهم لا تقارن بأى تضحية أخرى.. فقط نستلهم منهم روح التضحية، نضحى كما ضحوا، نتحمل كما تحملوا، نصم آذاننا عن أبواق العمالة التى تريد أن تحول ما أنجزناه إلى دليل إدانة بدلًا من أن تكون علامة فخر وشرف، كل ما أنجزناه من مشاريع عظيمة كان يمكن أن يتكلف النصف لو أنجزناه من عشر سنوات وكان سيتكلف الضعف لو بدأنا فى إنجازه بعد موجات التضخم الأخيرة، وبالتالى فعلى كل مزايد أن يخرس وعلى كل بوق يقيم فى فنادق السبع نجوم ويرثى لحال فقراء مصر أن يضع حجرًا فى فمه، أنا شخصيًا يؤذينى ارتفاع الأسعار ولكن تحمل هذا الأذى هو تضحية بسيطة للغاية مثل حبة رمل فى صحراء واسعة من التضحيات التى قدمها كل شهيد، أزمة الغلاء أزمة طارئة، ستعبرها مصر بفضل حسن التخطيط وتوافر المخزون وحزم الإدارة فى ضرب الجشع والاحتكارات، وستواصل طريقها نحو المستقبل بإذن الله.