رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معضلة التنمية فى مصر

 

لأسباب متعددة فإن التنمية فى مصر تشكل «معضلة».. المعضلة هى الطريق الصعب، أو المسألة الشائكة، أو الولادة المتعسرة، وكلها مفردات تدل على معنى واحد، هو صعوبة تحقق أمر ما أو استحالته ربما.. وإذا شئت مزيدًا من الدقة فإن مشكلة التنمية فى بلدنا أنها تُشبه البدلة الشهيرة التى ارتداها الراحل سمير غانم فى مسرحية «المتزوجون».. فهو إذا ضبط مقاس الجاكت اختل طول البنطلون.. وإذا طال البنطلون «ضرب» منه الجاكت على حد تعبيره.. أما طرفا معضلة التنمية لدينا فهما المواطن والدولة، ومنذ نعومة أظافرى وبداية وعيى تنقسم النخبة المصرية إلى قسمين جزء منهما يحمِّل كل تقصير للمسئولين وأجهزة الإدارة، وجزء يحمل المسئولية كلها للمواطن غير الجاهز للتنمية، وفى السنوات الأخيرة قبل يناير ٢٠١١ انضم طرف مزايد يحمِّل كل المسئولية للدولة وينتحل بعض مقولات اليسار بغرض المزايدة السياسية، وكان أحدهم يكتب فى صحيفته أن السمكة تفسد من رأسها، فلما ذاق لحم السمكة استوى عنده الرأس بالذيل ما دامت بقية السمكة صالحة للأكل.. والحقيقة أن هذا الانقسام غير حقيقى وأنه لا يمكن إلقاء مسئولية تأخر التنمية فى مصر على الدولة بمفردها، ولا على الشعب بمفرده، لذلك فإن الأمر هو أقرب للمعضلة، فلا الدولة شىء واحد على مر العصور ولا المواطن شىء واحد.. يطالعنا بعض البرامج مثلًا بقصص نجاح رائعة لسيدات رائعات يفقدن الزوج فيقمن مشروعًا صغيرًا للطعام وينجحن ويسترهن الله، هذه نماذج رائعة لرائدات أعمال وسيدات إيجابيات ومواطنات ومواطنين يصلحون للاعتماد عليهم فى التنمية وفى تغيير وجه الحياة، فى المقابل هناك نماذج أخرى لمواطن لا يعمل ويدمن المخدرات ويجلس على المقاهى وينجب سبعة أبناء ويرسل زوجته للعمل فى البيوت كى تدبر نفقات بيتها، هذا مواطن وهذا مواطن لكنهما لا يستويان، وبالتالى فإن الفروق الفردية بين المواطنين موجودة وبين المسئولين أيضًا موجودة، فى التسعينيات مثلًا لا يمكن أن تساوى وزيرًا مثل الكفراوى أو أحمد جويلى بالوزير الذى سرق مليار جنيه وبالذى وضع ما اختلسه فى حساب ببصمة الصوت فلما راح صوته راحت أمواله للبنك السويسرى.. هذا مسئول وهذا مسئول، ولكنهما لا يستويان، أظن أن ما يفعله الرئيس منذ توليه المسئولية أنه يفسح الطريق للنماذج الإيجابية ويحارب النماذج السلبية سواء على مستوى المواطنين العاديين أو على مستوى المسئولين، فى هذا الإطار فهمت أن الرئيس حين ضرب مثلًا بفيلم «الإرهاب والكباب» لم يكن يقصد بطل الفيلم بالتحديد، لأنه كان نموذجًا لمواطن يعمل فى وظيفتين ويحاول تقديم ما لديه، ولكن بالطبع هناك ملايين ينطبق عليها لفظ المواطن السلبى وهذا ليس انتقاصًا من عموم المواطنين ولكن تمييزًا للمواطن السلبى عن المواطن الإيجابى، وبالتالى فإن إحدى معضلات التنمية لدينا هى افتقاد الملايين المهارات اللازمة لسوق العمل أو لأى مهارات عمومًا وتحولهم لعبء على المجتمع لا خلاص منه إلا بإجبار الجميع على التعليم وتمويل ذلك بالمبالغ اللازمة، أما ثانية معضلات التنمية حاليًا فهى أننا جزء من العالم الكبير ولا يمكننا أن ننغلق على أنفسنا، وبالتالى نستقبل أزمات هذا العالم وشروره التى لم نسهم فى صنعها، دفعنا ثمنًا غاليًا لانتشار وباء كورونا الذى لا نعرف حتى الآن ما هو؟ ومَن صنعه؟ ومَن نشره؟ أدرنا الأزمة بكفاءة صحيح، ولكن بتكلفة عالية للغاية حتى الآن، وفى الوقت الذى نعانى فيه من التضخم العالمى وآثار أزمة سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الوقود، إذا بنا نفاجأ بشبح حرب عالمية تؤدى لمزيد من ارتفاع الأسعار، وتراجع السياحة، وأزمة اقتصادية عالمية، وبالتالى فإن الظرف العالمى الاقتصادى فى مجمله العام غير موات، فالاستثمارات الأجنبية ستنتظر كثيرًا، وما نستورده أصبح غالى السعر، وهكذا هلم جرا.. أما ثالثة معضلات التنمية فهى تنبع من الخصوصية المصرية، ففى كل بلاد العالم يكون تطبيق الإصلاحات الاقتصادية هدفه استفزاز القوى الكامنة فى المواطن، أو غريزة البقاء فيه، بمعنى أن التصور السائد هو أن رفع الدعم عن المواطن يُشبه إلقاءه فى البحر بهدف أن يتعلم السباحة، ويبتكر، وتنطلق قواه الفردية، فيعتمد على نفسه، ويصبح رائد أعمال، أو عاملًا نشيطًا، أو مبتكرًا، أو فنانًا، ولكن المواطن لدينا يُرفع عنه الدعم فلا يفعل شيئًا من هذا، ويظل ساكنًا، يعانى، ويشكو، وينجب مزيدًا من الأطفال، بينما الأسعار تشتعل من حوله، وللدقة فإن هذا حال بعض مواطنينا أو معظم مواطنينا للأسف الشديد وهذه معضلة رابعة من معضلات التنمية يمكن تسميتها بمعضلة غياب مهارة السباحة فى المحيط، أما المعضلة الخامسة فهى الزيادة السكانية وهى نتيجة مباشرة لانتشار التطرف الدينى وبقايا ثقافة الفتنة الطائفية والغزو الوهابى للمجتمع المصرى ولا خلاص منها إلا بمحاربة هذه الأفكار ومحوها من عقول المصريين، إننى أدعو فى هذه الظروف إلى نوع من «التشاؤم الإيجابى» الذى يعنى أن نستمر فى العمل والكفاح مع أخذ الظروف الدولية ومعضلات التنمية المصرية فى الاعتبار.