رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النخبة والناس

نشر أحد الفنانين صورة له وهو يغسل أسنانه بمعجون قال إنه من الذهب!، وقال أحدهم فى حوار تليفزيونى إنه يرتدى جاكيت مرصعًا بماس تبلغ قيمته مليون دولار، رغم أن أحدًا فى مصر لا يعرف اسم أغنية من أغنياته، وخرج أحد الإعلاميين ليصدم الناس فى مشاعرهم الدينية بحثًا عن الشهرة أو المال أو كليهما معًا، وكوّن بعض الإعلاميين عشرات الملايين فى سنوات قليلة بعد أن كانت حالتهم الاجتماعية فى بدء حياتهم توجب التسجيل فى ملفات معاش تكافل وكرامة.. ولا اعتراض عندى على أن يتطور كل هؤلاء ماديًا من الحلال، ولا أن يحققوا طموحات مالية مشروعة أو حتى غير مشروعة، وأنا هنا لا أبحث عن مصدر ثروة هؤلاء، رغم أن كل مجتمعات العالم تهتم بوجود مبررات منطقية لثروة الأثرياء بها، وتنظر باحتقار لذوى الثروات غير معروفة المصدر وتدرج تصنيفهم ضمن تصنيفات المشبوهين وأعضاء عصابات المافيا.. لكن هذا حديث آخر.. وبشكل عام هو أثر من آثار التعايش الطويل مع الفساد، حين كانت السلطة نفسها تبرر وجود الفساد، وكان رأس السلطة يقول فى كل مناسبة إن الفساد موجود فى كل أنحاء العالم!!، ومع ذلك فإن قضية فساد هؤلاء من عدمه، وهل أموالهم حلال أم حرام لا تعنينى، لكن ما يعنينى هو ماذا قدم هؤلاء للناس؟ الناس هم سبب ثروة الأثرياء والمشاهير، حب الناس هو الذى يحوله هؤلاء إلى مليارات فى حساباتهم، والى قصور يسكنونها، وسيارات فارهة يتسابقون فى اقتنائها.. ولا أحد ينازع فى كون هذا حقًا تكفله الملكية الخاصة فى الغرب والشرق أيضًا، لكن الحقيقة أن المشاهير فى الغرب يقدمون الكثير والكثير جدًا لمجتمعاتهم، وللعمل الإنسانى فيها، بل إن بعضهم يتبرع بمجمل ثروته للأعمال الخيرية ويبقى لنفسه ولأولاده ما يضمن لهم الحياة الكريمة فقط، ولعلهم يطبقون دون أن يدروا ذلك المثل الريفى الذى يقول إن الإنسان «ليس له أكثر من بطن».. والمعنى أنه مهما بلغت ثروة الإنسان فإنه لن يستطيع أن يأكل أكثر مما تتسع له معدته وإلا لأصيب بالتخمة ومات، وبالتالى فإن ما يزيد على ما يكفى من سد احتياجات الإنسان من ملبس ومأكل وحياة كريمة يصبح مجرد مال مكتنز، وعلى ما يبدو فإن أهلنا الطيبين لم يكونوا يعرفون بأمور بنوك سويسرا التى أصبح بإمكان من يريد أن يكتنز فيها ملايين الدولارات فى السر والخفاء، بعيدًا عن أعين الرقباء والحاسدين، والملحين بسؤال من أين لك هذا؟ وأنا شخصيًا لا اعتراض لدى، وأصدق ما يقوله هذا المشهور أو ذاك من أن ملايينه وملياراته التى يخبئها نتاج عمل تجارى شرعى، لكن ما أعترض عليه أننا كشعب لهذا البلد لم نعرف أوجه نشاط كثير من المشاهير وما هى مهنهم الأصلية، وما أعترض عليه أيضًا أن هذه الأموال لا تستثمر فى هذا البلد الذى هو بكل تأكيد مصدرها وسبب تراكمها، سواء كانت من حلال أم من حرام، أو ناتج عمل شرعى، أو فساد مستتر، وسواء كانت ناتج نشاط تجارى أم عمولات مقابل تسهيل الأعمال، إن كل ما أطمح إليه أن تستثمر هذه الأموال فى مصر، وأن تفيد أهلها، وأن تتحول لمشاريع صناعية أو زراعية يعمل فيها المصريون، لكن هذا بكل تأكيد أمنية مستحيلة، فضلًا عن أنها مثالية، وبلهاء أيضًا، فالذين يخرجون بأموالهم للخارج لا يهتمون كثيرًا بالبشر والناس ولا بالحق والخير والفضيلة، وإلا لما تمكنوا من مراكمة ملياراتهم هذه من أنشطة غير واضحة ولا معلنة أساسًا، إن الفارق بيننا وبين الغرب أنك تعرف سبب ثروة كل ثرى هناك، فأنت تعرف أن فلانًا أصبح مليارديرًا لأنه اكتشف الويندوز، وعلانًا أصبح مليونيرًا لأنه طور منتجات آبل وفلانًا أسس الصناعة الفلانية، وفلانًا اكتشف الدواء الفلانى، أما لدينا فإننا غالبًا لا نعرف لماذا أصبح بعض الأثرياء أثرياء، ونفاجأ بأرصدة بالمليارات لهم فى بنوك الخارج، ويكتفى بعضهم بأن يصدر بيانًا غامضًا يقول فيه إن ملياراته نتاج أعمال تجارية لا نعرف عنها شيئًا، ولا نعرف ماذا أضافت للاقتصاد المصرى، ولا بماذا أفادت المصريين، وما ينطبق على بعض الأثرياء ينطبق على بعض الفنانين الذين بدأوا من العدم الاجتماعى، وأنعم الله عليهم بفضل حب الناس لهم، لكن بعضهم لا يتوقف عن استفزاز الناس بمظاهر ثراء استعراضى، ولا نكاد نسمع عن تبرع قدمه لعمل خيرى، أو مؤسسة صحية، أو مشروع مثل مشروع حياة كريمة، رغم أن أى فنان بإقدامه على هذه الخطوة، يضرب المثل لغيره، ويشيع جوًا من الترويج لقيمة العطاء والتراحم والتكافل نحتاجها فى مجتمعنا المصرى، وما أريد أن أقوله إن النخبة المصرية التى تكونت خلال العقود الأربعة الماضية، فى غالبيتها العظمى تتكون من كائنات طفيلية، امتصت دم هذا الشعب، وراكمت المليارات من ورائه، وأهدرت قيم المسئولية الاجتماعية، والتكافل الاجتماعى، والتراحم بين المشاهير والبسطاء، واختصرت نظرتها للخير فى نثر بعض الفتات على المحيطين، أو ادعاء التدين الشكلى، أو الانغماس فى طقوس دينية استعراضية، وأظن أنه آن الأوان أن يعى الناس بما لهم وما عليهم، وأن نعيد نشر قصص عطاء الأثرياء المصريين قبل ثورة يوليو، وهى قصص كبيرة وعظيمة طمرتها العوامل السياسية وآن الأوان لإلقاء الضوء عليها كى تكون عبرة وعظة لمن احترفوا الأخذ دون عطاء، والفساد دون مواربة، واجاد بعضهم الاهتمام بالمظهر دون الجوهر.. والله من وراء القصد.