رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود السعدنى.. الساخر الحزين

كانوا يتحدثون عن محمود السعدنى دائمًا بصفته ذلك الكاتب، الإنسان الساخر، الذى لا يكف عن إطلاق التعليقات الحادة وأعنف ألفاظ السباب من غير أن تخونه ولو لحظة الكلمة المضحكة، حتى إن عادل إمام قال له ذات مرة فى نادى الصحفيين النهرى: «يا عم محمود لو أنا منك لعملت جلساتك هذه بتذاكر.. أنت مسرح كامل».

وفى شخصه النحيف، الذى كان يبدو ضعيفًا هزيلًا، وفى صوته شبه الخافت، كنت ترى إحدى أجمل وأعظم سمات الشعب المصرى، موهبة السخرية اللاذعة من كل شىء، الصبر الذى يداوى الألم، والقدرة على تحويل الجرح إلى ضحكة أولًا بأول، حتى والجرح ما زال ينزف على فمه.

وكان حضوره إلى منزلنا مفرحًا إذا كان على موعد مع والدى وجاء مبكرًا، لأنه لم يكن ينطق أمامنا بشىء مما يردده المثقفون من العبارات الفخمة، كانت حوارى وأزقة طفولته والفقر وأوجاع الناس تسكنه، فلم يكن يجهر بكلمة من معجم الثقافة، كأنه يلوم نفسه، لأنه أصبح مثقفًا وكاتبًا شهيرًا، وترك الناس هناك فى القاع.

أتذكر «عم محمود» فى عيد ميلاده الرابع والتسعين، الذى يحل فى العشرين من نوفمبر الحالى، وأستعيد لقائى الأول به فى منزلنا، ضيفًا على والدى هو والأستاذ محمد عودة، وكان الاثنان من أقرب أصدقاء الوالد، أدهشنى «عم محمود»، لأنه كان يطلق تعليقاته المضحكة دون توقف، بينما يسكن عينيه حزن ساخر غريب مع ابتسامة هازئة ثابتة على شفتيه.

كان السعدنى أحد أكبر رواد الصحافة الساخرة، واصل الدور الذى بدأه عبدالقادر المازنى، لكن بروح شعبية مشبعة بأنفاس أولاد البلد والأزقة، لا أولاد البيوت والذوات، اعتقل عام ١٩٦٤، لمجرد أنه يتحرك فى وسط اليساريين الديمقراطيين، لكن لم تربطه بهم أى علاقة تنظيمية، وكان من الشائع حينذاك تسمية التنظيمات بحروف مختصرة، فاخترع السعدنى لنفسه داخل المعتقل تنظيمًا سماه: «زمش» وكان إذا سأله البعض عن معنى الاسم المختصر يقول: «تنظيم زمش زى ما أنت شايف كده»!

خرج من المعتقل وعمل بجريدة الجمهورية، ثم فصل منها مع بيرم التونسى والخميسى وألفريد فرج وغيرهم، وعمل فى روز اليوسف وغيرها، وكان مقربًا من كبار رجال الدولة، ولما قام السادات بما سماه ثورة التصحيح فى ١٥ مايو ١٩٧١ اعتقل كل الوزراء الناصريين، واعتقل معهم عم محمود السعدنى، الذى قال للقاضى فى المحكمة: «اعتقلتونى من قبل عام ٦٤ لأنى كنت ضد الحكومة، وحين خرجت قررت أن أكون مع الحكومة، وإذا بكم تعتقلون الحكومة نفسها؟ أعمل إيه أنا؟».

بعد خروجه من حبسة السادات هاجر السعدنى، وتنقل مغتربًا ما بين أبوظبى والكويت وبغداد وليبيا، ثم استقر فى لندن، وأصدر من هناك مجلة «٢٣ يوليو» مع الكاتب الصحفى فهمى حسين، وأخيرًا عاد إلى مصر بعد اغتيال السادات فى ٦ أكتوبر ١٩٨١؛ ليواصل دوره الذى لم يتوقف، منذ أن نشر أولى مجموعاته القصصية «سماء سوداء» وأعاد نشرها عام ١٩٦٧، علاوة على أربع مسرحيات، أشهرها «عزبة بنايوتى»، التى قدمتها فرقة «الخميسى» عام ١٩٦١، ثم نشر فى السيرة الذاتية كتابه الممتع «الولد الشقى».

كان «عم محمود» أول من نشر لى قصة، وذلك فى مايو ١٩٦٦ وأنا فى السابعة عشرة، وقام بتقديمى إلى قراء مجلة صباح الخير قائلًا: «هذا كاتب جديد يثبت نظرية ابن الوز عوام.. فأبوه كاتب صايع شهير جذف فى بحار الفن نصف قرن أو يزيد وهو عبدالرحمن الخميسى.. وهذا الكاتب الصغير سنًا عنده فكرة وله أسلوب ودودة كتب» إلى آخر كلمته الجميلة.

وحين سافرت إلى الاتحاد السوفيتى ورجعت كنت بلا عمل ولا مصدر دخل، وكان كل من ألتقيه يسألنى: «كيف انهار الاتحاد السوفيتى؟ وما أخبار الاشتراكية؟».

وحين قابلت عم محمود نظر إلىّ لحظات ولم يسألنى عن الاشتراكية، سألنى وهو يضم أصابعه الخمسة إلى فمه: «إنت بتأكل منين يا وله؟.. عايش إزاى؟».

لقد رأى الانسان أولًا قبل كل شىء. كل سنة وأنت باق فى القلوب أيها الساخر الحزين العزيز المبدع الكبير.