رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة الوعى.. وإعادة بناء المجتمع

 

الحروب الإعلامية وعمليات تزييف الوعى ونشر الشائعات وإضعاف الحالة المعنوية للشعوب والخصوم ليست وليدة القرن الحادى والعشرين، بل موجودة ومتعارف عليها منذ فجر التاريخ، وأخذت أشكالًا وأنماطًا مختلفة وفقًا لمعطيات وأدوات كل عصر.

فى الحربين العالميتين الأولى والثانية وفى الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى التى انتهت بانهيار الاتحاد وتقسيمه لعدة دول، كانت الأدوات الإعلامية والصحفية والثقافية والإذاعات الموجهة والمنشورات وتشويه الخصوم وماكينة نشر الشائعات، من أهم الأسباب التى جعلت المعسكر الغربى الذى تتزعمة أمريكا ينتصر فى هذه الحروب، فسكان ألمانيا الشرقية حين حطموا فى نوفمبر ١٩٨٩ «حائط برلين» الذى كان يسمى «الستار الحديدى»، كانوا مدفوعين بكره شديد للشيوعية، وهو ما يعنى أن المعارك الثقافية وحرب الكلمات التى وجهت من الغرب للاتحاد السوفيتى كانت أقوى من القنابل النووية، لأنها أحدثت انفجارًا اجتماعيًا من الداخل أفضى فى النهاية للانهيار والتقسيم.

الدول والمجتمعات فى عصرنا الحالى، أصبح لديها إدراك بخطورة تجاهل هذا النوع من الحروب على مصالحها وحتى وجودها خاصة فى عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وتكنولوجيا التواصل التى خلقت لدول وشركات وجماعات، وحتى شخصيات، قدرات للتأثير المعنوى وتزييف الوعى لمجتمعات وتأليبها على بعضها البعض فى أى مكان على سطح الأرض.

مصر بالتأكيد لم تكن بعيدة عن هذا النوع من الحروب، فلو أخذنا على سبيل المثال الفترة من ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ إلى اليوم، سنجد أن حروب تزييف الوعى ونشر الشائعات أخذت أشكالًا مختلفة، لكن فى نفس الوقت ستكتشف أن الدولة المصرية تعاملت أيضًا مع هذه الحروب بشكل استراتيجى مدروس، نتج عنه فى النهاية انتصارها فى معركة الوعى ونجاحها فى إضعاف وكسر من كانوا يقومون على هذه العدائيات أو تحييدهم، سواء كانوا فى الخارج أو الداخل.

فمرحلة تثبيت أركان الدولة التى استمرت ثلاث سنوات من ٢٠١٣ إلى ٢٠١٦ ومنعها من السقوط، واجهت مصر، حكومة وشعبًا، حرب شائعات وتزييف وعى لم نشهدها فى تاريخنا، كانت مئات الشاشات والميكروفونات والمنصات الرقمية تعمل ليلًا ونهارًا على تزييف الوعى الجمعى عن حقيقة ما حدث فى مصر، من أنه انقلاب وليس ثورة، ونشر قصص وتقارير مدفوعة ومظلوميات كاذبة عن تنظيم الإخوان الإرهابى، وحرب شائعات طاحنة أنفقت عليها ملايين الدولارات لإضعاف ثقة المصريين فى قياداتهم وفى مؤسساتهم خاصة حملات التشويه التى كانت تستهدف، عن عمد، المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية المصرية.

كان رد فعل الإدارة المصرية خلال هذه المرحلة من تثبيت أركان الدولة، العمل بهدوء وبذكاء لإعادة بناء المؤسسات وتعظيم قدراتها، واسترجاع قوة أدوات التأثير المصرى فى الإعلام والصحافة والفن، وهى وسائل فاعلة فى عملية تشكيل «الوعى المجتمعى» وتحصينه ضد حروب التزييف والشائعات. ومع شراسة الحروب المعلوماتية التى كنا نواجهها لم يكن أمام الدولة حل سوى الدخول بكل ثقلها فى عملية الإشراف على إعادة تطوير المؤسسات الإعلامية والصحفية والإنتاج الدرامى والسينمائى، وتعظيم وجود الوزارات والهيئات والشخصيات الرسمية على المنصات الرقمية، لتوفير كل المعلومات عن أى نشاط تقوم به الدولة، وعدم ترك المجال العام لأى فراغ يدفع الإعلام والخطاب المعادى لملئه.

الرئيس السيسى، منذ توليه السلطة، كانت له أحاديث وتصريحات كثيرة حول أهمية معركة بناء الوعى الجمعى للمصريين وتحصينه، فخلال كلمة له فى أكتوبر ٢٠١٨ فى الندوة التثقيفية الـ٢٩ للقوات المسلحة، أكد خلالها أن «الوعى المنقوص والمزيف هو العدو الحقيقى، وإذا كنا مهتمين بحفظ البلد وحمايته يجب أن ندرك الصورة الكلية للواقع الذى نعيشه». السيسى لديه إدراك حقيقى بخطورة معركة الوعى، أى نعم إننا نجحنا بالفعل فى «استعادة الدولة المصرية»، لكن الأهم حاليًا هو ضمان وعى مستدام للجبهة الداخلية من أى اختراقات خارجية مرة أخرى، والوعى المستدام هنا سيكون مقرونًا، كما أكد السيسى خلال مداخلته الهاتفية فى منتصف سبتمبر الجارى مع التليفزيون المصرى، بتعزيز «العقلية النقدية» للمصريين، وتحقيق ذلك لن يكون سوى بالبناء العملى فى المدارس والجامعات والإعلام والأسرة والمسجد والكنيسة والمعبد، المنوط بها جميعًا تخريج وتربية أجيال قادرة على التفكير السليم والموضوعى فى أى قضايا وملفات تخص حاضرهم ومستقبلهم.