رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى غسان كنفانى

فى مثل هذا الشهر رحل عن عالمنا الأديب الفلسطينى الكبير غسان كنفانى وهو فى عنفوان شبابه لم يتجاوز السادسة والثلاثين.. ومكانة كنفانى فى الرواية والقصة الفلسطينية والعربية لا تقل عن مكانة محمود درويش فى الشعر، فقد طوّر القصة القصيرة التى بدأتها الرائدة الفلسطينية سميرة عزام، وقفز بها قفزة كبيرة، وترك من خلفه أعمالًا خالدة لعل أكثرها شهرة هى «رجال فى الشمس» التى صدرت عام ١٩٦٣، وأثارت ضجة ثقافية واهتمامًا غير مسبوق فى حينها. 

وجسّد كنفانى مع درويش ومع الرسام ناجى العلى ذروة من ذُرى الإبداع الفلسطينى الذى ارتوى من هموم النكبة ومن آمال التحرر. 

كان الأديب الكبير مصدر إزعاج متصلًا لسلطات الاحتلال، ليس فقط بفضل إبداعه السردى، بل وبفضل إبداعه النظرى الفكرى الذى تجسد فى مئات المقالات، علاوة على كتاب مهم هو «فى الأدب الصهيونى» الصادر عام ١٩٦٦.. لكل ذلك دبّرت المخابرات الإسرائيلية اغتياله فى مثل هذا الشهر فى بيروت بسيارة مفخخة أنهت حياته مبكرًا ومعه ابنة أخته «لميس». 

قام كنفانى فى كتابه «فى الأدب الصهيونى» بتحليل التوجهات الصهيونية الأدبية المبكرة، وفك عقدة من خيوط تشابكت فيها مفاهيم «القومية»، و«الدين»، و«اللغة» عند الحركة الصهيونية.

بداية يشير كنفانى إلى أن اللغة العبرية لم تكن سوى لغة طقوس دينية، حتى إن عددًا كبيرًا من اليهود كانوا ينطقون التراتيل ولا يفهمون معنى كلماتها، لكن الحركة الصهيونية حوّلتها إلى مرادف للقومية خلال اختلاق قاعدة عسكرية تخدم الاستعمار.

ويقول فى هذا السياق: «إن الحركة الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالًا لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسى.. وليس من المبالغة القول بأن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية». 

وعندما يستخدم كنفانى مصطلح «الأدب الصهيونى» فإنه يعنى الأدب المكتوب بأى لغة سواء العبرية أو غيرها، وسواء من كُتّاب يهود أو غير يهود، ما دام ذلك الأدب يخدم حركة احتلال فلسطين.

وهنا من الضرورى التوقف عند حقيقة واضحة وهى أن التاريخ الإنسانى لم يعرف قط قومية تشكلت فى سبعين عامًا أو حتى قرن من الزمن، ومن ثم فإن الحديث عن «أدب إسرائيلى» حديث مغلوط من الأساس لأن الأدب وثيق الارتباط بالقومية.

أيضًا لم يشهد التاريخ الإنسانى أنه جرى ابتعاث لغة ميتة بصورة مفتعلة لتمكين الوهم العقائدى بحق مزعوم فى أوطان الغير. 

وهكذا فنحن لسنا إزاء «قومية» ولا نحن إزاء «لغة»، مع أن الأدب، كل أدب، يتحدد وفقًا للغته، فنحن حين نقول «الأدب الإنجليزى» فإننا نشير إليه اعتمادًا على لغته أساسًا، وكذلك الأدب العربى، والفرنسى، اللغة هى العامل المحدد.. وعمليًا لن نجد «لغة» بهذا المعنى فى إسرائيل، لكن اللغات التى جاء بها المستوطنون من مختلف أنحاء العالم. 

ولذلك فإن غالبية الأعمال الأدبية «الصهيونية» لا ترقى للأعمال الأدبية بالمعنى المعروف، لكنها تسقط فى فخ الدعاية السياسية للصهيونية، وليس أدل على ذلك مما كتبه صموئيل يوسف عجنون، الروائى الإسرائيلى الحاصل على نوبل ١٩٦٦، فى روايته «تمول شلشوم»، من أن «العرب يشبهون الكلاب فى جلستهم، وهم أعداء الحضارة، وقد حولوا مركز الحضارة اليهودية فى فلسطين إلى اسطبلات لحميرهم»، وربما لذلك فاز بجائزة نوبل.

فى ذكرى رحيل كنفانى، مثله مثل كل أديب كبير، يرحل نصفه، ويبقى نصفه حيًا فى إبداعه.