رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تركيا وعقدة الجيش المصرى



تناولنا فى مقال الجمعة ٢٣ أكتوبر رحلة الأتراك البرابرة من الإستبس فى وسط آسيا إلى الأناضول لتأسيس دولة عمرها حاليًا لا يتجاوز ٦٠٠ سنة، شكلت تهديدًا لجيرانها فى الإقليم، وتمددت على حسابهم، حتى لقيت هزيمتها النكراء خلال الحرب العالمية الأولى ١٩١٤- ١٩١٨.. أتاتورك أُجبر على العودة بالدولة إلى داخل حدودها، قبل أن يتبوأ أردوغان السلطة، ويتعهد بإعادة «العثمانية الجديدة».
محمد على باشا وصل إلى حكم مصر عام ١٨٠٥، خاض حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز حتى خضعت له البلاد.. قيادته لم تكن عشوائية، بل كان يمتلك نظرة ثاقبة وعمقًا استراتيجيًا، لم يتوفرا لأحد ممن سبقوه فى حكم مصر، عبر قرون مضت، ما مكنه من النهوض بها عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، حتى أصبحت مصر فى عهده دولة إقليمية كبرى، تمتلك أقوى جيش وأعظم قوة بحرية فى الشرق الأوسط.. عندها تطلعت لتأمين نطاقات أمنها القومى، لذلك أورى محمد على للقنصل البريطانى عام ١٨١٢، بأنه قد يضطر لتوسيع نطاق حكمه ليشمل الشام التابع للإمبراطورية العثمانية.. طموح مبكر تم التخطيط له وتوفير كل الأدوات والوسائل الكفيلة بتحقيقه.
الثورات تعددت داخل أقاليم الدولة العثمانية، السلطان اعتاد الاستعانة بقوات «الانكشارية» لقمعها، هذه القوات خليط من جنسيات مختلفة، أُخذوا كأسرى حرب، وتمت تنشئتهم وتدريبهم وإدماجهم فى الجيش التركى، لكن التجربة أكدت أنهم يمكن أن يفتحوا تخومًا أو يحتلوا بلدانًا، لكنهم غير قادرين على مواجهة الثورات، حيث الحاجة هنا لخلط أدوات السياسة، بقوة السلاح، فضلًا عن أنهم يتدخلون فى سلطات الدولة وشئون الحكم.. أما الجيش المصرى فقد كان تابعًا للوالى محمد على، الذى يتبع السلطان العثمانى، وأكدت التطورات أنه قادر على تحقيق الأمن وفرض الاستقرار فى ربوع الإمبراطورية العثمانية، لذلك كلفه السلطان من ١٨١٢ حتى ١٨١٦ بأن يؤدب الوهابيين فى الجزيرة العربية، لتطرفهم الدينى والخروج عن وسطية الإسلام.. إبراهيم باشا، نجل محمد على وقائد الجيش المصرى، نجح فى دخول عاصمتهم «الدرعية» وقام بهدمها، وأجبر عبدالله بن سعود، زعيمهم السياسى، على السفر إلى الأستانة لتقديم الولاء للسلطان، ورد «الكوكب الدرى»، وما بقى بحوزتهم من التحف والمجوهرات التى أخذوها حين استولوا على المدينة المنورة.
الجيش العثمانى، بقيادة «خورشيد باشا»، عجز عن قمع تمرد اليونان ضد الحكم التركى، فقام السلطان بدعوة محمد على مرة أخرى لقمع انتفاضة اليونانيين فى فبراير ١٨٢٥، حيث أرسل حملتين عسكريتين.. الأولى: بقيادة «حسن باشا» نزلت فى جزيرة «كريت» وأخمدت الثورة فيها، والثانية: بقيادة «إبراهيم باشا»، توجهت إلى «المورة» بعد صدامات بحرية مع الأسطول اليونانى، وقضت على التمرد، قبل التوجه لمحاصرة ميناء «نفارين» واحتلاله، واقتحام ميناء «كورون» وإنقاذ الجيش العثمانى الذى كان محاصرًا داخله، وبذلك نجح الجيش المصرى فى إخضاع جميع المدن اليونانية، بعد استكمال سيطرته على شبه جزيرة «بيلوبونيز»، وجزيرة «رودس»، واقتحام «أثينا» عام ١٨٢٧.
السلطان العثمانى منح جزيرة «كريت» لمحمد على، مكافأة له على نجاحه فى إخماد ثورة اليونان! ما أغضبه بشدة، لأن السلطان سبق أن وعده قبل الحرب بمنحه ولاية بلاد الشام، تقديرًا لدوره ضد الوهابيين، حتى قبل إنهاء تمرد اليونان.. محمد على كان يعول كثيرًا على ذلك، حتى يستفيد من موارد المنطقة الغنية بالأخشاب والفحم والنحاس، ويضم شبابها إلى الجيش، فقد كان يعمل على تنفيذ خطة تأسيس «مصر العظمى» صاحبة الكلمة القوية والصوت المسموع فى السياسة الدولية.

الجيش المصرى يمثل عقدة للأتراك، فقد سحق الجيش التركى عدة مرات فى معارك ضروس، بدأت عندما قرر محمد على ضم بلاد الشام بعد أن حنث السلطان العثمانى بوعده.. فى طريق زحفه على الشام عام ١٨٣١ حاصر الجيش المصرى عكا بأسوارها الحصينة، ونجح فى احتلالها، وسيطر على فلسطين ثم دمشق، بعد تحطيم ٢٥ سفينة تركية، وسحق الجيش العثمانى عند «حمص»، واستولى عليها وعلى باقى المدن السورية.. انتصار المصريين عُرف بيوم «هزيمة الباشوات»، الذى خسر فيه الأتراك ألفى قتيل وألفين وخمسمائة أسير.. واستولى على عشرين مدفعًا وكل ذخائر وعتاد الجيش التركى.. المؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»، أكد أن جنود الجيش التركى البالغ عددهم ٦٠ ألفًا «فرّوا مع واليهم فرار الجبناء» أمام الجيش المصرى، الذى لم يزد على ٣٠ ألف جندى وبعض البدو غير النظاميين.. الجيش تقدم واحتل حماة، وانتصر على العثمانيين فى معركة «بيلان» جنوبى الإسكندرونة، واجتاز حدود سوريا الشمالية، إلى ولاية أضنة فى الأناضول التركى.
تقدم جيش مصر بقيادة إبراهيم باشا إلى الأراضى التركية، استهدف تأمين نطاق الأمن القومى لقطاع سيادة السلطة المصرية على الأراضى السورية.. الدولة العثمانية استعدت له بجيش، تحت قيادة الصدر الأعظم «محمد رشيد خوجة» باشا، بلغ قوامه ٥٣ ألف جندى، ونشبت معارك شرسة بين الفريقين، انتصر فيها المصريون فى «قونية» جنوب الأناضول، داخل عمق الأراضى التركية، بالقرب من مضيق البوسفور ومدينة الأستانة عاصمة الدولة العثمانية فى ديسمبر ١٨٣٢، وتم أسر قائده و٥٠٠٠ من جنوده، وسقط منه ٣٠٠٠ قتيل، واستولى المصريون على أكثر من ٤٠ مدفعًا.. القوات المصرية تقدمت وحررت «كوتاهية» عام ١٨٣٣، وأصبحت على بُعد ٢٩٠ كم من الأستانة، على طريق مفتوح يخلو تمامًا من جنود السلطان!.. إبراهيم باشا خيَّر أسرى المعركة بين العودة إلى وطنهم أو الانخراط فى الجيش المصرى، انضم ٥٠٠٠ منهم للجيش، وغادر الباقون إلى نهر الفرات، حاولوا عبوره سباحة، فمات منهم ١٢ ألفًا غرقًا، أما الباقون فقد لجأوا إلى جبال «عينتاب» بعد عبورها، فقتلهم البدو والكرد والتركمان.. السلطان العثمانى استنجد بالدول الأوروبية، التى سبق أن كانت تحرض محمد على ضده، لكنها انقلبت عليه بعد أن ظهرت مقومات القوة المصرية الصاعدة لترهب الجميع.
قيصر روسيا العدو اللدود للعثمانيين خشى من استيلاء والى مصر على عرش السلطنة العثمانية، وتمديد نفوذ دولته إلى مضيقى البوسفور والدردنيل والبحر الأسود، فتسيطر على حركة الأسطول الروسى، فأوفد الجنرال «مورافييف» إلى السلطان «محمود الثانى» ليعرض الدفاع عن السلطنة.. فرنسا وإنجلترا خشيتا عواقب التدخل الروسى على مصالحهما، فحاولتا وقف تقدم الجيش المصرى، لحرمان روسيا من ذريعة دخول الأستانة.. فرنسا استخدمت علاقاتها الودية لإقناع محمد على بتسوية الخلاف وديًا، وأوفدت إلى الأستانة الأميرال روسان سفيرًا للمساعى الحميدة.. «مورافييف» اتجه إلى الإسكندرية لعرض الوساطة على محمد على، والسلطان العثمانى أوفد «خليل باشا» ليقنعه بالتسوية الودية، والأميرال «روسان» طلب منه الاكتفاء بضم ولايات صيدا و«عكا» وطرابلس والقدس ونابلس، لكن محمد على رفض، وأصر على ضم سوريا وولاية أضنة الواقعة بالأناضول التركى، لأنهما ينتهيان جغرافيًا بجبال طوروس التى أرادها الحد الفاصل الطبيعى بين مصر والدولة العثمانية.. وهكذا صارت الدول الأوروبية تتسابق فى البحث عن صيغة لإقناع مصر بتسوية الخلاف مع الباب العالى، دون دخول الأستانة.
محمد على وجه خطابًا رسميًا إلى فرنسا محذرًا: «فى استطاعتى بكلمة منى أن أُحرض شعوب أراضى الدولة العثمانية على الثورة، فيلبوا ندائى، ويمكننى بتأييد أُمتى فعل أكثر من ذلك، لقد امتدت سيطرتى على أقطار عدة، والنصر حليفى، ومع أن الرأى العام يؤيدنى فى امتلاك سوريا بأكملها، فإنى قد أوقفت زحف جنودى رغبة منى فى حقن الدماء، ولكى يتسع الوقت أمامى لأتعرف على توجهات الدول الأوروبية، فهل بعد كل هذا الاعتدال وحسن النية والتضحيات تطلبون منى التخلى عن البلاد التى فتحتها والانسحاب بجنودى؟!.. آمل ألا يخيب أملى، وإلا فليس أمامى إلا أن أبذل نفسى بكل ابتهاج فداء لقضية أمتى».. كلمات معبرة لقائد عظيم، واجهة مشرفة لمصر القوية.
أمام صلابة موقف محمد على ازداد السلطان العثمانى خضوعًا لروسيا، وقَبِل بحماية قواتها البحرية والبرية، فجاء أسطولها ورسا فى مياه البوسفور، ونزلت قواته إلى الشواطئ التركية بذريعة مواجهة الجيش المصرى، ومع تمسك محمد على بمطالبه، إيمانًا منه بقدرات مصر الذاتية، تدخلت «فرنسا وبريطانيا» بثقلهما مع روسيا فى المسألة المصرية، ودعته إلى التفاوض وضرورة التخلى عن فكرة دخول الأستانة، وعقدت معه «صلح كوتاهية» ١٨٣٣، الذى اعترفت فيه الدولة العثمانية لمصر بحقها فى حكم كامل بلاد الشام «سوريا ولبنان وفلسطين والأردن» وإقليم أضنة التركى، إضافة إلى مصر والسودان والحجاز وجزيرة كريت، وبذلك أصبحت حدود مصر الشمالية تنتهى عند مضيق كولك بجبال طوروس.. إبراهيم باشا صار حاكمًا عامًا للبلاد السورية وقائدًا للجيش المصرى فيها، الذى يبلغ قوامه ٧٠ ألف جندى، والذى نجح فى توطيد مركزه السياسى والعسكرى داخل الإقليم.
فى عهد محمد على عندما اهتمت الدولة المصرية ببناء الجيش المصرى وتسليحه ذاتيًا، وتوجيه الصناعات المحلية لتلبية احتياجاته من الأسلحة والمعدات والذخائر- تحولت مصر إلى دولة إمبراطورية عظمى، اخترقت عمق الدولة التركية، وهددت بدخول عاصمتها.
عن الجيش المصرى ودوره فى مواجهة التهديدات التركية لأمننا القومى، ما زال فى الصفحات المشرفة للتاريخ بقية، موعدنا الجمعة المقبل إن شاء الله.