رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فتاة قَاصِرة

جريدة الدستور

«هل يحبُّها؟ ربما».
تقول أمى وتعترف بأنه أخذها صغيرة من بين الحقول، وكان يَكْبرها بسنوات لم تكن تعرف عددها، وأنها افتقدت الهواء ومياه التُّرعة، والسَّماءَ الفسيحة ورائحة الحقول ولون الطين بعد حَرْثه. وأنه عاملها بقَسْوةٍ لا تليق بطفلة لمّ يطأها الطَّمْثُ. وعُنْفُه فجَّر فيها رغبتها إلى حَدِّ التطرف، وأن قُوَّتها خانتها فى ضمِّه إخوة كثيرى العدد وتَزَمُّتها ومعاملتهم لها على أنها جاهلة وفقيرة بالرغم من صِلة الدم التى تربطهم كعائلة واحدة، وأن اللحظة الجميلة فى حياتها عندما أمسكت بصورة لها أهداها إليها (كليم الله) الماليزى الذى كان يدرس فى الأزهر مع شقيق زوجها. وأنها أحبَّت وجهها وشَعْرَها المجعَّد الذى يرقد بمحبة فوق كتفيها، وأبى يقف وراءها، وقالت: إنها لا تزال تتذكَّر شكل الكاميرا، وضحكة (أحمد) الماليزى، وحركة شفتيه قائلًا لها: «ابتسمى» بلغة عربية تميل إلى الغرابة بعض الشىء.أحبَّت صوته وطريقته فى الحديث إليها، ولن تنسى هَديَّتَه عندما عاد من ماليزيا وهى مفرشٌ مُزركش، وإيشارب بلون السماء المرصَّع بالنجوم من الحرير الخالص، اشتراهما من بائع هندى جاء حديثًا من الحجاز. ومن حُبِّهَا صنعت من المَفْرَش فُستانًا؛ لتحضر به زفاف قريبة لها، خاصة أنها لم يكن لديها المال لتشترى فستانًا جديدًا. وتتذكَّر أنَّها كانت تحب أن تستمع إلى صوته عندما يقرأ القرآن، وعندما سألته عن أحد المعانى قال: إنه يجوِّد القرآن، ولكنه لا يفهم معانيه، غير أنه سيحاول جاهدًا أن يؤوِّله.
لم يكن يهمُّها ما يحكيه عن عائلته أو عن الدول التى سافر إليها، كل ما يهمُّها هو الكاميرا الجديدة التى كان يصورها بها، ثم يأتى بعد أسبوع حاملًا لها صورها، ويتحدث لها فخورًا بجمالها، فأول صورة تلتقط لطفلتها كانت بكاميراته. و(كليم الله) أيضًا له هوايات أخرى غير التصوير، مثل الطَّهى. فكما تتذكَّر أمى كان عمى يطلب منه أن يطهو لهم الطعام الماليزى، خاصة الأرز المسلوق والفراخ المُتَبَّلة بالمِلْح والسكر، والساتى الماليزى، وكانكونج بيلاكان التى لم تستسغها والدتى فى البداية، لكنها أدمنتها بعد ذلك. كان يقول: إن الشرق هو التوابل، وإن الغرب أسَرَنا بعلمه وأجهزته الحديثة، ولكنه وقع فى غرام خيراتنا وتوابلنا من الفلفل، والكَمون، والحبهان، والزعتر، والقرفَة، والعُصفر... وغيرها من بُهارات الكون والجسد.
بعدما قُتِلَ والده فى محاولة لمقاومة الهيمنة الأندونيسية مع ماليزيا أرسله جَدُّه إلى القاهرة؛ ليدرس اللغة العربية والشريعة الإسلامية. كان يأمل أن يصبح قاضيًا شرعيًا، وفى الوقت نفسه أمله أن يصير دبلوماسيًّا يسافر إلى كل البلاد، كان يحب (عبدالناصر) ويعترف أنه رمز الاستقلال، ويَرْوِى أنه حَمل معه خِطابًا من والده إلى (عبدالناصر) يشكره على مُساندته المتمردين تحت قيادة حزب الملايو الشيوعى فى تكوين حرب عصابات تهدفُ إلى طرد الإنجليز من الملايو، وقد أُصيب أبوه بطلق نارى فى ساقه، ولكنه رقص مهللًا عندما حصلت ماليزيا على استقلالها عام ١٩٥٧، ولكن والده تُوفى يوم الاستقلال الحقيقى والاعتراف بماليزيا عام ١٩٦٣. ولكنه ظَل يحتفظ بخطابه لـ(عبدالناصر) طوال الوقت حتى حفظ مُحتواه. كان (كليم الله) صديقًا لعمى الشيخ (أحمد) يساعده على قِراءة القرآن وتجويده، وفوق ذلك كان زميله فى الأزهر، كان يذهبُ كل يوم إلى سيدنا الحسين يصلِّى العصر، ثم يقضى ما بين العصر والعشاء فى حفظ القرآن والصلاة، وبين المغرب والعشاء يستمع إلى أحاديث الشيخ (عبدالحليم عبدالله) فى الجامع الأزهر، ثم يتجول فى رُوَاق الأكراد يُسلِّمُ على بعض أصدقائه، ربما يتناول معهم العشاء، أو يذهب معهم إلى «حمَّام التَّلات» حيث يغسل جسده ويتطهر من أدرانه، كانت له خطيبة يكتب لها الخطابات، وكان يحكى لأمى كثيرًا عنها، ومرة أظهر صورتها لأمى التى أُعجبت بها كثيرًا، ولكنها عَلَّقَت بأنها صغيرة ونحيلة جدًّا، فقال: بعد ثلاث سنوات ستكون على ما يُرام.
كان يَعيشُ مع أسرته فى مدينة قريبة من كوالالمبور، أما خطيبته فتعيش فى بوتراجاى.
كانت أمِّى تشتكى إليه من أبى كثيرًا، وتقول: إنه يمُدُّ يده على الجارات، ويتحرَّش بهنَّ، وأنها تشُكُّ فى أنه على علاقة بجارتنا (لواحظ) التى هجرها زوجها إلى ليبيا ولم يعُدْ، وأن البنت التى وضعتها تُشبِهُ أبى كثيرًا؛ فعيناها بُنيَّتان مثله، وأيضًا لَوْنُ شعْرِها وشَكل أصابعها. ولم تكد تمرّ أيام قليلة حتى فارقت (لواحظ) بيتنا بعد مشاجرة عنيفة بين أبى وعمى.
قالت: إنه لا يفهمها، وأنه يتعاطى الأفيون كثيرًا والبيرة، وأصبح عَصَبِيَّا، ويضربها لأتفه الأسباب، ويَسبها أمام أبنائها، ويُحرجها بكلمات خارجة، وأن الأولاد يفهمون ما يصرِّح به، فكيف تُرَبِّيهم وتظل قدوتهم إن كسر احترامهم لها بخروجه عن المعتاد باللفظ؟.
دافع أبى هو الآخر قائلًا لها: إنها لم تعد الفتاة الريفية السَّاذَجة الآتية من حدود الْتِقاء الصحراء بالطمى، وأنه رآها مرة تحادِثُ رجلًا فى سيارة بيجو سبعة راكب فى موقف أحمد حلمى، وأنها نزلت وشربت معه عصير قَصَب، ثم انتقلت السيارة بعيدًا. وأنه لم يستطع أن يلحق بها. وأنه خاف من المواجهة والفضيحة. وبعد أيام أمرها أن تجهض ما فى رحمها. فرأيتُ جنينًا صغيرًا يرقد فى وعاء بلاستيكى فى ركن من أركان الحمَّام.
لم أخبرها بالحادثة، وبعد ساعات قليلة وفى ظُلمة الليل، أعطتنى لُفافَةً قُطنية وقالت: ادفنها برفْق بجوار مقلب القمامة بجوار مدرستك، ولا تدع أحدًا يراك، ثم اقرأ الفاتحة واستغفر لى ولأبيك.
كلما مَرَرْتُ بالمدرسة التى دفنتُ بها الجنين أرى شجرة كبيرة تنمو بها ثمار غريبة تشبه أجنحة الملائكة، وتبكى دموعًا من لؤلؤ، ما تلبث أن تتحول إلى كلمة تُشبه فى حروفها الحرام هو القتل والظن السَّيِّئ.
كان أبى يرى أنها أذكى من أن تكون امرأة فلاحة، وأنها منذ اللحظة التى اخترقت فيها أصابعه أنوثتها قد تاهت منه روحها، وأن رأسها الكبير ينمُّ عن ذكاء حادٍّ لا يُحِبُّه فى المرأة. وأن أظفارها لا تزال تنطبع على مَسامِّ جِلْده؛ لأنه أهانها، وقال لها: إن أباها غفير دَرَكٍ لا يَمْلِكُ من متاع الحياة سوى بعض شرائط الجوت التى صنعها الإنجليز عندما تسلم مهامَّه بعد الركود الاقتصادى فى الثلاثينيات. هى لم تكن تفهم كل كلام هذا الرجل الأزهرى الذى لم يُنهِ إجازته العليا لظروف الفَقْر التى مَرَّ بها وارتضى التضحية رغم أنْفِه؛ ليُربِّى إخوته الصبيان، ويستِّرَ أخواته البنات. قال لـ(كليم الله) إنها تفتخر بأصولها العربية، وتقول إنها بغدادية، وهذا نظرًا لاسم قريتها فى الفيوم، وربما أتت من العراق أو كردستان، وأنها من نسل (هارون الرشيد)، ولكن أهلها هربوا من بغداد بعد غزو التتار لبغداد. فعبروا نهر الفُرات والبحر الأحمر ثم ساروا فى صحارى سيناء المديدة. ولَمَسَ جَدُّها الجبل الذى كَلم به موسى رَبّه. فرُفِع عنه الحِجاب وأُعطى العَهْد لذُرِّيته ومُحيَت خطاياهم مهما كانت كثيرة، وأنه فى الفيوم ورغم فقرهم، فإنهم سادَةُ القرى. والكل يعرف أنها بنت شيخ عرب. وأنه عَلِمَ أن هذا الزوج غير المكتمل لا يتناسب مع الشرف الرفيع الذى وُلِّى به.
أبى يذكر هذا ويتحسَّر ويقول: «ليتنى تزوجتُ (سميرة) المغربية، التى تأخذنى فى سيارتها وتجوب بى شوارع جاردن سيتى». (سميرة) من أصول يهودية، ووالدها كان يعمل فى السفارة المغربية بالقاهرة. سمراء وممتلئة وتشبه الأفارقة، ولكن عينيها تحملان أسرار الكهوف ورحابة الجبال الخضراء. لم يكن لديها عمل بالسفارة، ولكنها متطوعة مع جمعية خيرية لجمع التبرعات لضحايا النازية فى ألمانيا، ومحاولة دعم الوجود اليهودى فى إسرائيل.
لم يكن يعرف بالطبع هذه الأشياء، وكل ما يهمُّه هو هذا الجسد المُثير للشهوة، وهذه الكلمات المتشبعة بالمحبة.
كانا يتناولان الغداء فى فندق شبرد أو سميراميس، ويتحسَّر أبى أنه لولا أبناؤه الذين رُزِقَ بهم لكان اليوم فى مراكش أو كازابلانكا أو فاس يعمل فى السفارة هناك. وأن تردُّده وحبَّه لزوجته قد عطَّل حبَّه لهذه المغربية التى هامَتْ به حُبًّا، وباتت تعمل الأحجبة وتمارِسُ السحر؛ لتجعل مَحَبَّتَه حقيقية، ويهجر أوطانه إلى بلدها. ولكنه كان يُحصِّن نفسه بالقرآن والأوردة التى حفظها عن أبيه. ولكنه كان يقول: جنونى بعض منه سِحْر المغربية.