رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرصاصات الساخنة وهى تفاجئ الحراك الفرنسى


فرنسا رفعت حالة التأهب الأمنى إلى درجة الهجوم الطارئ بعد حادث ستراسبورج

التقدير الفرنسى يرجح أن يكون الهجوم عملًا إرهابيًا والعملية تؤكد الإخفاق الأمنى


لم تتأخر الرصاصات المجهولة طويلًا عن الحضور فى المشهد الفرنسى، فانطلاقها منذ ساعات مضت فى مدينة «ستراسبورج» الشهيرة بالشمال الشرقى، ربما فقط مارست قدرًا من المناورة بإطلاقها بعيدا عن المركز، الذى عادة ما يحظى بكثافة الاهتمام «شارع الشانزلزيه». لكنها جاءت أخيرا؛ كى تصدق بها هواجس وتوقعات الأمن الفرنسى، ولتثبت إخفاقه أو ارتباكه فى أفضل التسميات أثناء انهماكه فى مجابهة ما يجرى فى ذات المركز.
عملية إطلاق النيران؛ قام بها شخص واحد منفردًا، داخل سوق تتجهز لاحتفالات عيد الميلاد وقد بدأ العمل به فعليا، ومنذ أيام يستقبل الجمهور والمرتادين. وأسفر ذلك عن وفاة «٤ أشخاص»، وإصابة «١١ شخصا»، على مسافة عشرات الأمتار من مبنى «البرلمان الأوروبى» الذى سارع بإغلاق أبوابه عقب سماع صوت إطلاق النيران. لم تكن تلك الأصوات هى رصاصات عملية الهجوم، بل كانت صادرة بشكل متبادل ما بين قوات مكافحة الإرهاب وبين المهاجم المسلح. وتمكن الأخير فى طيات هذه الملاحقة الأمنية من الفرار، ليعمق الإخفاق الأمنى، ويدفع وزير الداخلية الفرنسى «كريستوف كاستانير» لحظة وصوله إلى المدينة صباح الأربعاء، لإعلان رفع مستوى التأهب الأمنى إلى درجة «الهجوم الطارئ»، مع تنفيذ إجراءات معززة لمراقبة الحدود وتشديد الرقابة على جميع أسواق عيد الميلاد فى فرنسا لتجنب خطر الهجمات المماثلة.
«٣٠٠ عنصر أمنى» ينفذون الآن منذ صباح الأربعاء عملية تعقب أمنى، للشخص منفذ عملية الهجوم، الذى أبدت بعض الإشارات المبدئية أنه معلوم لدى الجهات الأمنية الفرنسية. بل المفاجأة أن هذا الشخص ربما خضع لاشتباه من نوع ما قبل ساعات من تنفيذ العملية الأخيرة. مما دفع الأجهزة الأمنية لمداهمة شقته الكائنة بحى «نودورف»، على خلفية تحرٍّ له علاقة بـ«حادث سرقة»!، وقد فر المشتبه به حينها من محل إقامته ليخفق الأمن فى العثور عليه، وبتفتيش المسكن عثر على «٣ قنابل» لم يتمكن الأمن من تفسير سبب حيازته لها. وهى ملابسات تضع ستارا من الغموض حول هذا الشخص، الذى اعترف وزير الداخلية فى زيارته للمدينة بأنه «قاوم قواتنا الأمنية مرتين»، وهذا يشير إلى أن فراره من المسكن جرى أثناء مداهمة الشرطة، التى لم يفصلها سوى نهار الثلاثاء، قبل عملية الهجوم المسلح التى نفذها مساء نفس اليوم بـ«رشاش آلى» على الأرجح.
نائب عمدة ستراسبورج «آلان فونتانيل»، سارع بتنبيه المواطنين عبر التغريد على تويتر قائلا: «إطلاق نار فى مركز المدينة. شكرا لبقائكم فى منازلكم، فى انتظار اتضاح الموقف». لكن ملابسات المداهمة المذكورة لسكن المشتبه به، توحى بأن الموقف كان واضحا بشكل جزئى لدى الأمن، وأن إخفاقه فى إلقاء القبض عليه قبل تنفيذه الهجوم لم يكن هو الإخفاق الوحيد، فربما تفسير وتحليل الاشتباه، شابه هو الآخر الكثير من الارتباك والتشوش. فإن كان هذا الشخص هو المنفذ للهجوم فالمعلومات التى لدى الأمن الفرنسى، أنه يبلغ من العمر «٢٩ عاما» وولد فى ستراسبورج عام ١٩٨٩م، لأبوين من أصول مغربية. شهود عيان المطاردة الأمنية، أفادوا بأن الشخص المهاجم كان قوى البنية وشعره أسود ويبلغ طوله نحو ١.٨٠ متر. وبعض الإعلام الفرنسى أضاف أن المهاجم معروف لدى الأجهزة الأمنية بنشاطه الإجرامى، وأدرج سابقا على «قائمة S» التى تضم الإرهابيين والأشخاص الأكثر خطورة على الأمن الفرنسى. والإدراج على القائمة، جرى بعد قضائه عقوبات بالسجن فى وقت سابق، بسبب تهم «جنائية» تمت ملاحقته من أجلها فى فرنسا وألمانيا. كما جاء على خلفية سلوكه داخل السجن، مما وصفته التقارير الأمنية بالميل المفرط للعنف، وممارسته لنشاط تبشيرى.
تحسبًا لوقوع هجوم ثان، قد ينفذه المهاجم، أو خشية هروبه لدولة ثانية، قام الأمن الفرنسى بإخلاء وإغلاق عدد من المناطق الهامة، من بينها البرلمان الأوروبى، مع الدفع بعناصر إضافية لتعزيز الإجراءات الأمنية فى جميع أسواق «عيد الميلاد». بالإضافة إلى تشديد مراقبة الحدود على الجانب المقابل من نهر الراين، كما أعلن وزير الداخلية. فى الوقت ذاته تنفذ الشرطة الاتحادية فى ألمانيا، عملية مراقبة مكثفة لعدد من المعابر الحدودية بحثًا عن المهاجم، منها الموجود فى مدن «كيل، وافتسهايم، وبرايزاخ، ورايناو» الألمانية.
عملية وملابسات الهجوم المسلح عهد بالتحقيق فيها، للنائب العام الفرنسى لمكافحة الإرهاب، فى إشارة واضحة لانحياز التقدير الفرنسى الأولى باعتبارها «عملية إرهابية». وهذا يطرح تساؤلا أوليًا عن عملية المداهمة الأمنية التى نفذت صباح يوم ارتكاب الهجوم المسلح» هل جرت على خلفية نشاط إرهابى تشكك الأمن فى قيام المهاجم به؟. هذا ليس واضحا، بل الأقرب للظن أنه جاء وفق تكثيف الأمن لعمله فى اصطياد المشهورين بـ«العنف» خشية انضمامهم للحراك الشعبى بالشارع. وهى مهمة منخرط فيها الأمن الفرنسى بالفعل منذ بداية جولات السبت الماضية، وعبر الأسبوع الأخير بدأ يكثف جهوده بشكل ملحوظ، فى المدن الشهيرة التى يخشى انتقال الفعاليات وأعمال العنف إليها، ومنها مدينة «ستراسبورج».
أيضا ملابسات المداهمة والعثور على «قنابل»، وفرار المشتبه به بسلاح جاهز للقيام باشتباك نيرانى امتد لنحو الساعة، قبل أن ينجح فى الفرار. يضع المشهد على محك آخر له علاقة بـ«ذئب منفرد» ربما كان يتجهز، للقيام بعملية كبيرة اضطرته المداهمة إلى التعجيل بتوقيتها، لينفذها مساء يوم المداهمة الأمنية، فى أقرب الأهداف المتاحة لديه. لكن المثير أنه وسط كل هذه التشديدات والاستنفار الأمنى، ينجح فى تنفيذها بهذه النتيجة. وهذه الفرضية الأخيرة تضع علامة استفهام كبيرة، قبل أن تلقى بظلال الخطر الذى قد يعترى مشهد الحراك الفرنسى لاحقا، فالاستفهام لا يزال يبحث عن الخانة التى يمكن وضع عملية الهجوم داخل إطارها، ما بين تنظيم إرهابى يجد حضوره مفيدا داخل هذا الحراك الفرنسى، وهذا بعيد نسبيا وبه من الغموض أكثر مما يمكن تفسير مقصده بسهولة. وبين شريحة الجيل الثالث من المهاجرين، الجاهزين دوما بالاحتقان المعد تاريخيا للانفجار، رغم أن دورهم بدا شاحبا حتى الآن، فى معادلة الحراك المحملة بغموض وتعقيد مكوناتها.