رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الأستاذ» ملأ الدنيا.. وشغل الناس


الأستاذ «هيكل» يجسد ظاهرة تصاحب المفاصل الكبرى للأمم العظيمة فى خضم التحولات الكبرى تتمثل فى كاتب موهوب يصوغ كلاماً يتجاوب فى جرسه ومعانيه ومشاعر الجماهير، فاذا بالناس تردده، متخذة منه حافزاً، لمواصلة النضال المرير، مستعينة به على اجتياز الأزمات والنكسات، شاحذة به العزائم فى أوقات الفتور واليأس، مترنمة به وهى تحلم بالمستقبل المرموق... ولكل شعب فى هذه المرحلة العاتية مثل هذه القيثارة، وقلما تتميز هذه القيثارة بوعى كبير وحكمة فذة ومقدرة على التوجيه، وكأنما هى أوتار يحركها لهام الجماهير وتفانيهم الصادق، وبقدر ما تشتد حساسيتها فى التعبير عن آلام هذه الجماهير وآمالها بقدر ما تستعصى نغماتها العذبة على عفاء الزمان ومرارة النسيان تتناقلها الأجيال وتتذوقها فى إصرار ... كتبت لها الحياة والبقاء. هذه هى ملخص حكاية الأستاذ مع مصر وصحافتها هى قصة الصحافة عندما تتحول إلى الإعلام المهنى والفكر الحر والرأى المستنير الذى يربط الماضى بالحاضر ويستشرف المستقبل. إن أثر «هيكل» فى حياتنا العقلية والصحفية أثر لا سبيل إلى إغفاله أو التهوين من قدره. وما من شك عند المنصفين أن الصحافة العربية قبل الأستاذ هيكل غيرها ما بعده فمدرسته الصحفية بمنهاجها الفريد المتفرد قد بلغت بجهده ويقظته مرحلة لم تكن لتبلغها بدونه. وكان الأستاذ كاتباً موسوعياً محيطاً شارك مشاركة قوية عبر مقالاته وكتبه فى فنون المعرفة الإنسانية وظفر بمقام «الأستاذية» بمعناها الصحيح، فكان فى حياته وأحاديثه ومؤلفاته أستاذاً أصيلاً ضليعاً.

إن «هيكل» الصحفى المفكر، كان فوق ذلك صاحب رسالة شاملة نبيلة، تهيأ له بالسفر والنظر واستخلاص العبر رابطاً بها بالماضى والتاريخ معايشة التجارب والأحداث الكبرى العالمية والمحلية وثقافته المتميزة الإنسانية، أن يؤديها فى امتلائها وازدهارها، لا إلى أمته العربية وحدها، بل للإنسانية قاطبة، وأى شىء فى الدنيا أجمل من تنوير الأذهان وتفتيح الآفاق، وإعلاء قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية سيبقى أثر «هيكل» فينا ما بقيت هذه الرسالة.

كما امتاز «هيكل» بالذكاء الفطرى النادر وحضور البديهة ودقة الملاحظة، والشعور المرهف للصحفى النابه إلى جانب دقة فى التحليل الرصين وترفع عن الصغائر .ولذا لنبوغه سعى الرؤساء والحكام للالتقاء به غدا بين الناس موسوعة ضخمة أن الأستاذ قد «ملأ الدنيا وشغل الناس» .هيكل هو صوت ثورة يوليو 1952 وعبر عن فترة المد القومى الناصرى ناقلاً ورفيقاً وناصحاً لزعيم الأمة العربية وكاتب خطب بانى النهضة المصرية الحديثة وقائدها جمال عبدالناصر عبر عن آلمنا فى نكسة 1967 وأملنا فى النصر الذى تحقق فى نصر أكتوبر، وصوت ضمائرنا بعد أن شاخت السلطة وتحولت إلى مياه راكدة. وكانت له قدرة لا تجارى فى ابتكار الكلمات الجديدة وإثراء اللغة الصحافية والإعلامية، وكان مستنيراً جريئاً شكل وعى أجيال وكان المعبر الأكبرعن مصر الطموحة القادرة الواعية. كان الحكيم الذى يقدم «روشتة الخلاص»، و«نوراً» يتقدمنا لاقتحام ذلك النفق المظلم الذى استطال بأكثر مما يجب، و«المرجعية» التى يعود إليها الوطن لنبحث لديه عن «بوصلة الاتجاه» الصحيح، ورشد ورشاد التوجه المستنير، وكان دائماً مرتب الفكر، صافى الذهن، واضح الرؤى، صادق التوجه، حيث قدم للأمة تجاربه وخبرته ونصائحه ليس عن الماضى فقط ولكن عن الحاضر والمستقبل. رحم الله الأستاذ وأسكنه فسيح جناته.

■ كاتب وباحث أكاديمى