رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«التأسيسية» .. وإغفالها عن أهم ضمانات استقلال القضاء


ولا يكفى فى استقلال القضاء تقرير مبدأ الاستقلال وإنما يلزم أيضا وضع مجموعة من الضمانات التى تكفل التحقيق العملى لهذا المبدأ وتحول دون الالتفاف حوله بوسيلة أو بأخرى بغرض التأثير فى عقيدة ورأى عضو الهيئة القضائية

جاءت العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية وإعلانات الحقوق معبرة عن استقلال القضاء وضماناته صراحة منتصرة لصالح حقوق الإنسان باعتبار أن العدالة هى أساس حقوق الإنسان وضمان لحمايته، لذلك فلابد من النصوص الصريحة الدستورية التى تكفل حماية القضاء واستقلاله عن باقى سلطات الدولة سواء السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، ولا شك إذا ما تم الأخذ بمبدأ استقلال السلطات سيتحقق ذلك وقد أخذت الأنظمة المعاصرة بمبدأ استقلال السلطات لاسيما أن النموذج الأمثل على ذلك وجد فى كل من أمريكا وإنجلترا على الرغم من كون النظام الأمريكى رئاسيا والإنجليزى برلمانيا إلا أنهما أخذا به وثبت نجاحه فى توظيف سلطات الدولة الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية بالتوظيف الأمثل للسلطات بحيث عدم تداخل السلطات بين بعضهم البعض، وقد أثبتت التجارب العملية بعد الثورات نجاح هذا المبدأ فى تطبيقه.

وللاستقلال جانبان: أحدهما استقلال إدارى والآخر استقلال فنى، فالأول يعنى الفصل بين العضو القضائى والسلطة التنفيذية من الناحية الإدارية فتقوم السلطة القضائية بإدارة نفسها بنفسها دون تدخل من جانب السلطة التنفيذية، أما الاستقلال الفنى فهو استئثار العضو القضائى بنظر قضاياه والفصل فيها دون تدخل أو وصاية عليه من جانب أى جهة أو سلطة أخرى، ويختلف مدى الاستقلال فى الحالتين، فهو فى الأولى نسبى وفى الثانية مطلق.

ولا يكفى فى استقلال القضاء تقرير مبدأ الاستقلال وإنما يلزم أيضا وضع مجموعة من الضمانات التى تكفل التحقيق العملى لهذا المبدأ وتحول دون الالتفاف حوله بوسيلة أو بأخرى بغرض التأثير فى عقيدة ورأى عضو الهيئة القضائية، وتتعدد فى الواقع هذه الضمانات وتتنوع مظاهرها وأشكالها ورغم تعدد هذه الضمانات وتنوعها فإنه يمكن تقسيمها فى مجموعتين أساسيتين أولا: ضمانات مباشرة وهى التى تتجه مباشرة إلى حماية مبدأ الاستقلال، ويندرج فى هذه الطائفة قاعدة الاستقلال بالمساءلة الجنائية والمدنية والتأديبية لعضو الهيئة القضائية «الحصانة» وتأثيم التدخل فى أعمال القضاء والامتناع عن تنفيذ أحكامه وعدم القابلية للعزل ، وهو ما نص عليه دستور 1971 فى المادة168 منه وأكدت عليه المادة 67من قانون السلطة القضائية المعدلة بالقانون رقم35لسنة1984 على هذا المبدأ بتقريرها بأن «رجال القضاء غير قابلين للعزل» والواقع أن هذا المبدأ بهذه الصيغة لا يستقيم، فالقانون يعترف بإمكان عزل القضاة من وظائفهم إما لعدم الصلاحية الفنية وفقا للمادة 112 من قانون السلطة القضائية أو لعجزهم الصحى وفقا للمادة91 من ذات القانون، كما أنه يمكن عزلهم نتيجة الإجراءات التأديبية وفقا للمادة 108 من ذات القانون وهذا ما أثبت نظريا وعمليا، وكان يتعين التوفيق بين المبدأ وإمكانية العزل قانونا ويقتضى إعادة صياغة المبدأ وفق الصيغة التالية: «أعضاء السلطة القضائية غير قابلين للعزل بغير الطريق الذى رسمه القانون» أو «أعضاء السلطة القضائية غير قابلين للعزل بغير الطريق القانونى» إلا أنه من المؤسف تعالت أصوات بالجمعية التأسيسية منهم إدارة الجمعية وبعض ممثلى القضاة بالجمعية وبعض أعضاء بلجنة الصياغة مثل الأستاذ عاطف البنا- أستاذ القانون الدستورى- بعودة نصوص دستور1971 الخاصة بالسلطة القضائية وهى لا تستقيم مع استقلال القضاء وهو ما أغفلته لجنة الصياغة بالجمعية التأسيسية، وهذا المبدأ الخاص بعدم القابلية للعزل بالصيغة المقترحة منا يحد من سلطة الحكومة أو السلطة التنفيذية فى مواجهة القاضى فهى لا تملك عزله من وظيفته وهو بذلك يجرد السلطة التنفيذية من سلاح كان من الممكن استغلاله فى ترهيب القضاء والتأثير فى استقلالهم، ومن هذه الزاوية فهذا المبدأ يعد ضمانة لحماية استقلال القضاء وليس لحماية شخص القاضى وهو ما ينعكس إيجابا فى أداء مستقيم للوظيفة القضائية لحماية حقوق الأفراد المهددة ضد عسف وجور السلطة التنفيذية وأهواء أعمالها ، ولذلك لا يمتنع فقط على السلطة التنفيذية إقالة العضو القضائى من منصبه بل يمتنع عليها أيضا كل ما يتضمن أبعادا له عن عمله أو المكان الذى يباشره فيه كنقله أو ندبه أو إعارته أو وقفه أو تعيينه دون إرادته فى مناصب إدارية أو سياسية حتى ولو كان فى ظاهر ذلك ترقية له وقد كانت أزمة السيد المستشار النائب العام بتعيينه فى وظيفة غير وظيفته القضائية خير شاهد على افتئات السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وتهديدا لاستقلالها، وشعرت بخيبة أمل بخروج مسودة الدستور الأخيرة ولم تبتكر أو تبتدع نصا دستوريا بضمانات دستورية وقائية لاستقلال القضاء.

ثانيا: ضمانات غير مباشرة : وهى التى تقرر مجموعة من الوسائل يكون من نتيجتها المساهمة فى تحقيق استقلال القضاء فهى توفر المناخ المناسب للاستقلال ويندرج تحت هذه الطائفة الاعتبارات المالية التى تتعلق بالرواتب والمعاشات وكفالة حد لائق من الحياة الكريمة، فلا يمكن الحديث جديا عن استقلال القضاء فى مواجهة الحكومة وهم ينتظرون عطاياها وقراراتها لإصلاح أوضاعهم المالية فضلا حتى لا تكون هناك ميزة تكون هدفا يسعى إليه القضاة على حساب استقلالهم. كما أن الاستقلال لن يتحقق إلا إذا أقرت مبدأ المساواة بين القضاة وأعضاء الهيئات القضائية فى المعاملة بحيث لا يتقرر ميزة خاصة لقاض ينفرد بها دون أقرانه، فالإخلال بالمساواة يؤدى إلى انفراط عقد الاستقلال.

لذلك نناشد الجمعية التأسيسية للدستور مراجعة ذلك وهى بصدد إعدادها لدستور تتجه إليه أنظار العالم أجمع، وأن تضع أمام أعينها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المنضمة إليها مصر وأصبحت جزءا منها والخاصة بحقوق الإنسان واستقلال القضاء حتى نصل إلى أهداف الثورة النبيلة غير محيدين عن أهدافها.

■ هيئة قضايا الدولة