رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد قطب فى أمريكا 2/2


كانت رحلة سيد قطب لأمريكا كاشفة عن رجل ينتمى إلى ( مدرسة الفكر الإنسانى ) الذى يبحث عن المشتركات بين الحضارات المختلفة، وقد أفزعه أن تُخرج أمريكا الكنيسة عن دورها الأصيل فيقول عن ذلك (وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم المسيحى كله،

فإنها فى أمريكا مكان لكل شىء إلا العبادة وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر معد للّهو والتسلية، كنت ليلة فى إحدى الكنائس ببلدة جريلى بولاية كولورادو فقد كنت عضواً فى ناديها، كما كنت عضواً فى عدة نواد كنسية فى كل جهة عشت فيها ) ويستطرد قطب فى مذكراته مستنكرا الروح الأمريكية التى حولت الكنائس إلى مراقص ( وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبى إلى ساحة الرقص الملاصقة لقاعة الصلاة، يصل بينهما الباب ؛ وصعد ( الأب ) إلى مكتبه، وأخذ كل فتى بيد فتاة ) .

ويصل قطب إلى مراده حينما يقول ( وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين، والإيمان بالفن، والإيمان بالقيم الروحية جميعًا، لا يبقى هنالك متصرف لنشاطها إلا فى العلم التطبيقى والعمل، وإلا فى لذة الحس والمتاع وهذا هو الذى انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام .) .

سيد قطب هنا هو قطب المنطلق فى آفاق رحيبة هى آفاق الإنسانية والقيم الروحية جميعا أيا كان مصدرها، يرفض أن تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين والفن، وتظهر حيرة سيد قطب حينما يرى أن الجمهور الأمريكى العاشق للعنف المستغرق فى المادة يُقْبل بشغف عجيب على الفنون التى ترتقى بالروح الإنسانية مثل الأوبرا والباليه والروايات التمثيلية فيقول (ولكن الجمهور الأمريكى مع هذا، يقبل على الأوبرا، ويصغى إلى السيمفونيات، ويتزاحم على الباليه، ويشاهد الروايات التمثيلية الكلاسيك حتى لا تكاد تجد مقعدك خالياً ،ولقد خدعتنى هذه الظاهرة فى أول الأمر، بل لقد فرحت بها فى داخل نفسى، فقد كنت دائم الشعور باستخسار هذا الشعب الذى يصنع المعجزات فى عالم الصناعة والعلم والبحث ألا يكون له رصيد من القيم الإنسانية الأخرى ) .

القيم الإنسانية عند قطب فى مرحلته الثقافية بأمريكا لم تكن منعزلة ولكنها كانت على رحابتها تتسع للفنون جميعها حتى الرقص التمثيلى ( الباليه ) ويعتبر قطب أن السيمفونيات والرقص والفنون هى من رصيد القيم الإنسانية التى فرح عندما رآها فى المجتمع الأمريكى إلا أنه علل وجودها بعد ذلك فى النفسية الأمريكية أنها من باب التظاهر بالثقافة وليست من باب الإيمان الفعلى بها .

ومن الفنون التى حركت مشاعر سيد قطب فى المجتمع الأمريكى فن الرسم، حيث اعتبرها قطب من أرفع الفنون التى ترتقى بالقيم الإنسانية إلا أنه عاب على المجتمع الأمريكى سطحيته فى مشاهدة هذه الفنون فيقول (ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن فى سان فرانسيسكو فى إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسى ووزعت اهتمامى على ما فيها من الصور ولكننى ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها : ثعلب فى بيت، ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القارئ روعة هذه الصور العبقرية، التى صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة فى لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فى).

ومرة أخرى يذهب قطب إلى متحف من متاحف التماثيل فينبهر من الإبداع الذى رآه فيه، ولا يترك قطب مذكراته إلا وقد تحدث عن السينما الأمريكية ويشيد بأفلام رأى أنها رائعة مثل مرتفعات وذرنج، وذهب مع الريح، وترتيل برنادوت، إلا أنـــــــه يرى أن الأفلام التى ترتقى بالنفس قليلة بالنسبة للأفلام السطحية.

ويعود قطب من أمريكا بعد عامين، كان قطب الذى ذهب إلى أمريكا وعاش فيها هو قطب الشاعر الفيلسوف صاحب النزعة الاجتماعية التى تهتم بالفنون وترى أنها تجعل للبشرية معنى وترفع من قيمة الإنسان وترتقى بقيمه، كان قطب الذى ذهب إلى أمريكا هو المصلح الاجتماعى الذى يبحث عن القواسم الحضارية المشتركة والذى يرى أن الإقصاء والعنف هما آفة من آفات البشر ويرى أن الانعزال لا يكون إلا من الضعيف الذى يخشى ما لدى الآخرين .

وحين عاد قطب استكمل مسيرته الفكرية، أدخل إليها تجربته الجديدة وقد كانت إحدى أمنياته أن يفسر القرآن الكريم وأن يعرضه على أساس نظريته الأدبية « التصوير الفنى» وتحقق لقطب ما أراد .. ففى فبراير من عام 1952 بعد عودته من أمريكا بعامين بدأ قطب فى مجلة ( المسلمون ) كتابة مقال شهرى رأى أن يكون فى تفسير القرآن الكريم واختار له عنوان ( فى ظلال القرآن ) ثم بدا له بعد ذلك أن يكتب تفسير القرآن فى كتاب وليس فى مقالات فظهر الجزء الأول من تفسير « فى ظلال القرآن» فى أكتوبر من عام 1952م ثم أصدر على مدار عامين بعد ذلك ستة عشر جزءاً من الظلال حتى نهاية سورة طه .

وفى غضون عام 1954 تم اعتقال سيد قطب بسبب صلته التى كانت قد توثقت مع جماعة الإخوان المسلمين فقام فى سجنه باستكمال كتابة تفسير الظلال وكان أن أكمل سيد قطب الطبعة الأولى من تفسيره « فى ظلال القرآن» فى نهاية الخمسينيات، وبعد أن صهر قطب تجاربه كلها خرج لنا مشروعه الفكرى الأخير فقام بعمل طبعة جديدة منقحة بمنهج يختلف عن الطبعة الأولى ركز فيها على المعانى والتوجيهات الحركية والدعوية والجهادية فى القرآن وقد وضع قطب فى طبعته المنقحة تصورات جهادية فاصل فيها بين مجتمع الإيمان ومجتمعات الجاهلية وكان حجم الجزء من الطبعة المنقحة ضعف حجم الجزء من الطبعة الأولى، ومن صفحات الظلال خرج للمطبعة كتابا مثيرا كان له أكبر الأثر فى تكوين جماعات العنف فيما بعد ألا وهو كتاب «معالم فى الطريق» الذى كانت لتجربة قطب فى أمريكا أثر كبير فى بلورة أفكاره لأنه رأى ــ وفقا للظاهر لنا والله أعلم بالخوافى أن حضارة الغرب أصبحت غير مؤهلة لقيادة البشرية وأنه لا توجد قواسم حضارية .... كانت الحاكمية لله هى عماد مشروع قطب فى مرحلته الأخيرة أخذها من المودودى وأضاف إليها من خلال تجاربه، وفى مشروعه الأخير أصبحت كل المجتمعات عنده هى مجتمعات جاهلية حتى ولو كانت تتعبد لله بالإسلام طالما غاب عنها منهج الحاكمية .

سيد قطب له ثلاث طبعات الطبعة الأولى هى طبعة الشاعر الناقد، والطبعة الثانية هى طبعة المفكر الاجتماعى الذى يجمع بفكره ولا يفرق، والطبعة الثالثة بدأت فى التشكل بعد أن جاء من أمريكا وأنتجت لنا الكتاب الأخطر فى القرن العشرين «معالم فى الطريق» ومع ذلك فإن فترة أمريكا فى حياة قطب ستظل مخفية عنا فى تفصيلات كثيرة، فقطب الذى ذهب إليها غير قطب الذى عاد منها !! وكأنما أقسمت أمريكا منذ زمن أن تترك أثرا ما فى الحركة الإسلامية