رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن بؤس الثقافة والمثقفين العرب

منذ سنوات غير قليلة، لا يمر يوم دون حكاية، أو مشهد، من حكايات الحركة الثقافية المصرية والعربية التى توجع القلب، وتؤذى النفس، خصوصًا مع ما تحمله من دلالات على بؤس حال الثقافة والمثقفين العرب، إن كانت لا تزال فى بلاد العرب ثقافة أو مثقفون.

وقبل أن تذهب بك التوقعات بعيدًا، فأنا لن أتوقف طويلًا أمام ما جرى بالمتحف المصرى الكبير من سوء أدب فى حضرة العميد.. يكفى أطرافه ما نالوه من ردود أفعال، لم يفهموها فى الغالب، وربما سولت لأحدهم نفسه اعتبار ما حدث بمثابة دعاية مجانية للحدث الذى عاشوا يحضرون له شهورًا طويلة، أو لإرضاء الجهة «الممولة» والمنظمة «للمكلمة» التى أفرغوها من محتواها بتلك الحركة الصبيانية، ودفعت الكثيرين إلى النفور منهم ومن كيانهم الناشئ.. وبدلًا من أن تمثل جلساتهم دعوة لقوى التنوير فى مصر والعالم العربى للانضمام والالتفاف حولهم، أو متابعة ما يقدمونه من أفكار وتصورات، أصبحوا هدفًا للسباب، والتفتيش عن النقائص والعيوب.. هى مزحة سمجة، لكنها كاشفة، ودالة، وصرفت عنهم الجميع، بمن فى ذلك محبون ومتابعون ومؤيدون وقراء.. فأى خير يمكن أن ينتظره أى صاحب عقل من تجمع بشرى يبدأ مسيرته بإساءة الأدب فى حق من يجلسون تحت «مظلة» هو مُنشئها وصانعها، وهو من غزل خيوطها، وحارب من أجل ظهورها والخروج بها إلى حيز الوجود.

والحقيقة أننى لا أعرف إلى متى ستظل تلاحقنى تلك الحالة الغريبة التى كثيرًا ما أجدها تحاصرنى، ولا يمكننى التخلص منها أو من تداعياتها، خصوصًا أننى بعد كل هذه السنوات من الحياة والتجول بين مقاهى المثقفين ومنتدياتهم، لا يجوز أن تأخذنى ولو مجرد الدهشة، من حالة البؤس التى تنتاب النخبة المثقفة، وتكشف عن نفسها بقوة، من وقت لآخر، تلك الحالة التى صرت أعرفها، وأعرف مساراتها، مسبباتها ونتائجها، وبداياتها ونهاياتها أيضًا، ولا أعرف لماذا كلما بدأت تلك الحالة أتذكر المقولة الشهيرة: «كلهم يريدون دخول الجنة، لكن لا أحد يريد أن يموت».

هذه المقولة هى التعبير الأصح والأقوى، فى تصورى، عن تلك الحالة الغريبة التى تنتاب جموع الكاتبات والكتاب كلما فاز أحدهم بجائزة، أو ظهرت صورته على غلاف إحدى المجلات الثقافية، ولو كانت مجرد مطبوعة تزيد «أعداد» كتابها على «عدد» قرائها، فالجميع يريدون صورهم على أغلفة المجلات المتخصصة، يريدون الفوز بجوائز الدولة، وجوائز الهيئات والمؤسسات ورجال الأعمال، وشهادات التقدير «من أى حد»، يفرحون بها، ويهنئون بعضهم عليها، ويملأون بها حوائط منازلهم، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعى، لكن لا أحد يريد أن يتفرغ لكتابة حلمه، أو ترجمة تصوراته وأفكاره إلى إبداع يمكنه، وحده، أن يفتح له كل الطرق، إلى الجوائز والأغلفة والندوات وحفلات التتويج.. لا أحد يريد أن تكون الكتابة والإبداع هما كل همه، وكل أحلامه، ومنجزه، ولهذا لم يكن غريبًا بالنسبة لى تلك الحالة التى انتابت الأوساط الثقافية العربية عقب الإعلان عن فوز رواية الفلسطينى الأسير باسم خندقجى بجائزة «دائرة أبوظبى للثقافة والسياحة»، وانشغال الجميع بأى شىء ما عدا قراءة الرواية، والبحث فى أسباب فوزها.. كلام كثير عن تجميل صورة سجون الاحتلال، وعن انحياز لجنة التحكيم، وعن فترة أسر المؤلف، وطرق تسريبه لمخطوطات رواياته.. ولا شىء عن الرواية نفسها، لا حديث عن الأدب، ولا عن الإبداع أو الفن، فتحول الحدث الأدبى إلى «مكلمة» فى السياسة وعن الحرب والمقاومة وتجميل الاحتلال.

والحقيقة أننى لا أظن أن النظر إلى الأمر من وجهة نظر سياسية فى صالح أحد، لا الجهة المانحة، ولا من جانبهم الحظ فى الفوز بها، ولا المتربصين بكل الجوائز والمرشحين والفائزين بها.

فى أماكن أخرى من العالم، يناقش المثقفون والأدباء ما شاءوا من أفكار، وينبشون الأرض بحثًا عن تصورات لماهية الروح، وعلاقتها بالجسد، عن رحلة الإنسان فى متاهات الوجود، بما فيها الوجود الاجتماعى والثقافى والاقتصادى والسياسى، عن تجليات ما تلوكه البشرية طوال تاريخها من مسميات لا تستطيع القبض عليها.. وتحلق الكتابة بعيدًا عن السائد من تصورات، فتبتكر ما يناسبها من أساليب فى الكتابة والتصوير، ولا تتورط فى مثل تلك المعارك الصغيرة التافهة التى لا تليق بنخبة مثقفة، قارئة، تطارد المعرفة، وتبحث عن معنى لوجودها.. أما هنا، فلا شىء سوى المزاح السمج، وإساءة الأدب فى مقام لا يحتمل، ولا تجوز فيه أجواء السهرات الخاصة، والبحث فى كل ما هو هامشى، ولا قيمة له، فيما حول الكتابة والفن والإبداع.. لا فى الكتابة نفسها، أو فيما نريد منها، ولها.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.