رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اتجاه عكسى

نسرين البخشونجى
نسرين البخشونجى

منذ ثلاثة عشر عامًا قررت أن أنتقل لأعيش فى القاهرة الساحرة وحدى، تاركة وللمرة الأولى عائلتى والمدينة التى ولدت وعشت فيها «أسوان»، والتى لا تقل سحرًا عن القاهرة، وكل من يعرف أنى ابنتها يقول لى «يا بختك»، للحق صرت أعرف قيمتها الآن. التحقت للدراسة بإحدى الجامعات الدولية بقسم اللغة العربية كتخصص أساسى، وعلم الأنثروبولوجيا والاجتماع كتخصص ثانٍ، لم أر نفسى أبدًا فى المسار المهنى الذى تمنته لى أمى وكذلك أبى، فى أن أكون طبيبة، لذلك طلبت أن تكون دراستى فى القاهرة وفى الجامعة التى أختارها، يوم وصلنى خطاب قبولى لم تسعنى الفرحة، لمحت الحزن فى عيون أمى. أتممت دراستى، لكن حين دخلت حرم الجامعة، بعد عقد من الزمن، لحضور فعالية ثقافية شعرت وكأنى غريبة. لا أعرف كيف نسيت تفاصيل المكان وبقيت ذكرياته المؤلمة فقط.

هناك بدأت رحلتى مع الاكتئاب بسبب ضغوط مارسها علىّ أستاذتى، هربت من سطوة أمى إلى سطوة أستاذتى الشهيرة فى مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، لم أعرف السبب حتى تخرجت فى الجامعة، هى ترانى أقل من أن أُقبل فى الجامعة العريقة، ربما لكونى محجبة أو من بنات الصعيد، لكنى لم أكن الطالبة الوحيدة التى تنحدر من أسرة صعيدية، فالجامعة تعطى كل عام عددًا من المنح الدراسية كاملة لأبناء الصعيد الذين تخرجوا فى مدارس حكومية. أحاول كثيرًا أن أبعدها عن ذاكرتى، أن أتفادى كل ألم نفسى تسببت لى فيه، إلا ذلك اليوم الذى قررت أن أفتح فيه الموقع الإلكترونى الخاص بالجامعة، بحثت عنها لأعرف أخبارها عثرت على الصفحة التى تحمل كل معلوماتها كأستاذة أكاديمية وصورة حديثة لها. تغيرت كثيرًا بعدما احتل الشيب رأسها، امتلأ وجهها قليلًا، لكن بشرتها ما زالت رائقة ومشدودة. تذكرت أنها ذات يوم طلبت منى بعد انتهاء المحاضرة أن أجلس وأكتب إجابة سؤالها فورًا خلال خمس دقائق.

- متى بدأت حركة التنوير فى أوروبا وما هى خصائصها؟

- «التنوير» هى حركة فكرية بدأت منذ أكثر من مئة عام فى فرنسا خلال أواخر القرن السابع عشر، مرورًا بالقرن الثامن عشر، أى بين قيام الثورة المجيدة والثورة الفرنسية.

تلك المرة الأولى التى أشعر فيهـا بالرعشة الداخلية التى تحتــل جسدى وتجعلنى أفقد تركيزى، لم أرغب أبدًا فى النظر إليها. كنت أنظر إلى شرابها الرمادى الثقيل والحذاء الطبى الذى لا تغير موديلـه. شعرت حينها بالرغبة فى البكاء وكل زملائى حولى يراقبون نظرة الدكتورة سهى لى وأنا أكتب. سحبت الورقـة مـن تحـت يـدى بعنف، ثم بدأت فى قراءة ما كتبت بصوت عال، ونبرة صوت ساخرة:

- أنتِ كاتبة التواريخ خطأ، ولديك أخطاء إملائية كثيرة. تركتنى مذهولة أمام الجميع، وانصرفت.

خرجت يومها من الجامعة حزينة، لا أدرى، بسبب الحنين للأهل أم بسبب غضبى منها، ركبت إحدى الحافلات الذاهبة إلى مصر الجديدة، نزلت فى حى الكوربة. أحب هذا المكان ذا الأبنية القديمة التى تشبه مبانى وسط البلد، أذهب هناك كثيرًا، لا أعرف إن كان رغبةً فى الابتعاد عن المكان الذى أشعر داخله بالقهر، أم لأمارس هوايتى فى مشاهدة الشوارع والبشر وأنا داخل الحافلة؟

لا أنكر أن السنوات التى أمضيتها هناك غيرتنى كثيرًا، أرى أنها صنعت منى شخصية أفضل من تلك التى كنتها. جعلتنى أكثر انفتاحًا على الآخر، إنسانة تفهم أن كمال الإنسانية يكمن فى أن البشر ليسوا مثل أسنان المشط، وترى أمى أنى لم أعد أنا، تكره شخصيتى الجديدة وتتهمنى بالبعـد عـن اللـه، ومن وقتها بدأت اللعب فى المنطقة الرمادية.

خرجت من هذه التجربة بأصدقاء، تغيروا مثلى فابتعدنا.. كأننا لم نكن ولم يشهد الحرم الجامعى على أحاديثنا وأحلامنا، حتى صديقى الذى غنى لى ذات يوم «يـا بنـت يا أم المريلة كحلى» وكان يتصل بى أثناء الإجازات ليطمئن علىّ بينما يحكى لى عن «رولا» حبيبته، لم يقبل طلب صداقتى على الفيسبوك!

سعدت كثيرًا حين عثرت على حسابه ضمن قائمة «أشخاص ربما تعرفهم»، لأن عدد الأصدقاء المشترك بيننا كبير، فأرسلت له رسالة أذكره بنفسى ظنًا منى أنه لم يعرفنى، لأنى أستخدم اسم العائلة. جاءنى رده بعد نصف ساعة.

- طبعًا فاكرك.. صباح الفل.

ومع ذلك أبقى طلب الإضافة معلقًا حتى قمت بإلغائه.

غريبة هى الحياة!

ماتت دكتورة سهى بعد يومين من بحثى عن أخبارها. حين قرأت الخبر مكتوبًا على صفحة إحدى زميلاتى فى الجامعة بكيت وتذكرت كل شىء. فوجئت بزميلتى تتصل بى وتطلب منى أن أسامحها، صفاء على علم بكل شىء.. كان الجميع على علم بكل شىء، لكنهم فضلوا أن يكونوا فى منطقة الأمان، بعيدًا عنى.

- أنا بدعى لها بس مش هقدر أنسى ظلمها لى بدون سبب. 

- أنت فى أول مناقشـة عـن علاقـة المـريـد بالشيخ، أعلنت أنك صوفية تواظبين على حضور جلســـات الذكـر والحـضرة.

- وإيه المشكلة فى كده؟

- حين اقتربت منها علمت أن أمها وأختها كانتـا صوفيتين، ربما ذكرتها بهما وكانت العلاقات بينهن مقطوعة، لأنها مختلفة تمامًا عنهما.

شعرت لحظتها بأننى توحـدت مـع الدكتورة سهى، وكأنى أعيـد كتابـة حكايتها بطريقة أخرى. كانت امرأة متمردة عـلـى أمـهـا، وهــا أنـا أمـشـى فى الدرب نفسه، إدراك الوجه الآخـر مـن القصـة يـغـير وعينـا بهـا ويثبـت للمرة المليون أن للحقيقـة ألـف وجـه غـير الذى نراه ونسمعه، وأن عـدم إدراكك للحقيقة لا ينفى وجودها.

فى معظم الأوقات أجد صعوبة فى تذكر أسماء من أساءوا لى، لكن ملامحهم بكل تفاصيلها تبقى محفورة بذاكرتى. وفاة دكتورة سهى جددت داخلى ذكريات تخص أشخاصًا وثقت بهم ذات يوم وسقطت أقنعتهم. هؤلاء من أكدوا لى أن الحقيقيين غير مرغوب فيهم، يسحقهم المجتمع وينبذهم الناس، لذلك يستحقون وحدتهم. بينما يترقى أصحاب الأقنعة، يتحققون هنا وهناك، رغم أن زيفهم ينكشف وأقنعتهم تسقط واحدًا تلو الآخر. أكاد أجن، لا أفهم كيف ولماذا وإلى متى؟

يظن ياسين أن الإنسان ليس له ثمن، يقول لى: لا شىء يساوى عقلة إصبع منا. مسكين لا يعرف أننا نقطع بعضنا بعضًا، نقتل بعضنا بعضًا، نبيع بعضنا بعضًا. رغم أن عالمنا ليس سوى نقطة صغيرة فى فضاء مظلم، نقطة تعيش فى ماضى الكون، ومع ذلك يظن البشر أنهم المحور والأساس. مذهل أن ترى حجمك الحقيقى من بعيد!

مقطع من رواية «اتجاه عكسى»