رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اعترافات صاحب مفتاح السر

عبدالرحيم كمال: حسن الصباح أكبر مغامرة فى حياتى.. واخترعت «ابن سيحون» للضرورة الدرامية 3-2

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز يحاور عبدالرحيم كمال

فى خلوته الخاصة، حيث تحيط به الكتب من كل مكان، جلست إلى عبدالرحيم كمال. 

وجدته كما هو رغم النجاح الأسطورى الذى حققه مسلسله «الحشاشين»، فالنجاح الذى يصل إلى حدود السماء يزيده تواضعًا وخفضًا لجناحه مع من اعتاد عليهم واعتادوا عليه. 

رأيت عبدالرحيم كما قابلته أول مرة. 

كان ذلك أثناء مسلسله «الرحايا»، الذى لعب بطولته وليه الدرامى الكبير الفنان نور الشريف، لم يتغير عبدالرحيم، يمتلك قدرًا هائلًا من البساطة الإنسانية الطاغية، تراها فى ضحكته المجلجلة، وقفشاته التى لا تنقطع، ونظراته الحائرة التى تبحث عن مرفأ آمن. 

رغم الجدل الهائل الذى أثاره مسلسل «الحشاشين» فإن عبدالرحيم لم يتحدث إلا قليلًا، طلته التى يعتز بها عزيزة، تحدث بالضرورى، ربما لأنه كان يوفر نفسه لحديث يطول بينى وبينه، وهو ما تعودنا عليه معًا بعد كل عمل يقتحم به الجميع. 

ما دار بينى وبينه لم يكن حوارًا أسعى من ورائه إلى الحصول على إجابات سريعة عن أسئلة عابرة، ولكنه كان جلسة أقرب إلى الفضفضة النفسية حول ما كان وما سيكون، لذلك لا تندهشوا إذا عثرتم على عبدالرحيم مختلف تمامًا عما تجدونه وهو يتحدث عبر البرامج التليفزيونية أو الحوارات الصحفية، فما بيننا يجعله يكشف الغطاء عن الأسرار التى تحيط بعمله. 

هذا حوار مختلف مع من يحمل مفتاح سر الإبداع.

يعتبر نفسه عبدًا فقيرًا إلى الله، يفعل ما عليه ثم يترك التوفيق للأقدار، فالفضل والمنة من الله، يرفع من يشاء ويضع من يريد.

■ انتقلت مع عبدالرحيم كمال إلى منطقة من المناطق التى التهبت على هامش المسلسل، سألته بشكل مباشر، تحدثت عن استخدامك العامية المصرية فى الحوار ردًا على الهجوم الذى أعتقد أنه كان يتجاوز المسلسل إلى العامية المصرية نفسها، هل يمكن أن أسمع منك شيئًا مختلفًا عن المبررات التى قلتها.. هل يمكن أن تطلعنى على الفكرة الفنية من استخدام العامية؟ 

أجاب ببساطة: استخدام العامية فى حوار المسلسل كان اختيارى أنا والمخرج من البداية، ولم يكن ذلك لأن أبطال المسلسل فرس، وعليه فالعامية المصرية هى المناسبة أكثر، ولكن من وجهة نظرى لأنها عامية فصيحة، ويمكن أن تقول إن ٩٩ بالمائة منها لغة عربية، ثم إن العامية المصرية ليست لهجة خاصة بقرية أو كهف تحت الجبل يتحدث بها ٣٠٠ أو ٤٠٠ فرد، هى لهجة عربية فصيحة يتكلم بها ١٢٠ مليونًا ويفهمها أكثر من ٤٥٠ مليونًا، فكان قرارنا أن نحكى الحدوتة التى أصلها ليس عربيًا بالعامية المصرية لأنها الأقرب والأجدر والأكثر استحقاقًا. 

كان هناك سبب آخر لا يمكننى إغفاله، فقد أردنا أن نستعيد سلطان العامية المصرية فى المنطقة بعد أن فقدت كثيرًا من تأثيرها خلال السنوات الماضية. 

الأهم من ذلك والذى ربما أثار استفزازى قليلًا هو أن هذه المسألة انتهت تمامًا، الحوار حول اللغة أو اللهجة المستخدمة فى الحوار تقلص نهائيًا فى العالم، فيلم نابليون الأخير ينطق فيه البطل بالإنجليزية، ولم يعترض أحد أو يحتج على ذلك أحد، وأعتقد أن من أثاروا هذه القضية كانوا يصوبون سهامهم فى اتجاه معين، ورأوا أن هذه السهام يمكن أن تصل إلى أهدافها من خلال المرور عبر مسلسل الحشاشين. 

■ قلت لعبدالرحيم: ما الذى فعلته بالإمام الغزالى؟ لماذا حجمت دوره إلى هذه الدرجة؟ كان يمكن أن يكون معادلًا موضوعيًا لحسن الصباح، لقد أدنت مؤسس الحشاشين من خلال مواقف المحيطين به، لكن ألم يكن من الأجدى أن يظهر الإمام الغزالى فى مساحة من يرد ويفند ويصحح؟ لقد سمعنا كثيرًا من الصباح لكننا لم نسمع إلا القليل من الغزالى، لماذا كان الصباح طوال الوقت هو المسيطر والموجود، والغزالى متواريًا، من أدانوا الصباح لم يفعلوا ذلك من أرضية شرعية كما فعل الغزالى.. انتظر كثيرون تفنيد أفكار حسن الصباح على الشاشة، ويرون أنه كانت لديك فرصة من خلال الإمام الغزالى، لكنك أضعتها. 

لم يبد على عبدالرحيم أنه يوافقنى على ما أقوله، ولم يبد أيضًا أنه يرفضها كله. 

قال: وضع الغزالى فى مواجهة الصباح بالنسبة لى هو الميزان الأسهل والأبسط والأقرب لى، لكننى لو فعلت ذلك لكان المسلسل شديد الجفاف، كان سيتحول إلى محاضرة أو مناظرة بين الاثنين، نضع الصباح فى كفة والإمام الغزالى فى كفة، نقول للناس انظروا هذا هو التطرف وهذه هى الوسطية. 

هدفى كان أكبر من ذلك بكثير، كنت أريد وضع الحشاشين وحسن الصباح أمام الناس، لنرى معًا كيف يتم تدمير فكرتهم من داخل التنظيم نفسه وليس من خلال تفنيدات الغزالى، فهذا الرجل الذى سيطر على العالم من وجهة نظره لم يستطع السيطرة على مشاعره، لم يستطع الاحتفاظ بأولاده، لم يستطع الحفاظ على زوجته، فهو رجل مهدم من الداخل، رغم أنه يبدو محصنًا من الخارج. 

ما فعلته أفضل بكثير من وضع اثنين فى مواجهة بعضهما البعض، ثم إن الحقائق تقول إن الإمام الغزالى لم يكن فى مواجهة الصباح فى هذا العصر وحده، كان هناك عمر الخيام بكل أشعاره وأفكاره وتناقضاته وهناك سلطان سلجوقى وخليفة عباسى، ولم يكن من المنطق أن أخسر هذا التنوع كله، فالعصر لم يكن صافيًا لدرجة أن يكون هناك ميزان بين رجلين فقط، لقد كانت فتنة كبيرة ووقع فيها كثيرون. 

ولا يمكن أن نتجاهل أبدًا أن هذا النمط «المناظرة» بين شخصيتين حتى لو كانتا فى وزن الصباح والغزالى سيكون أقل إمتاعًا، لأننا فى هذه الحالة كنا سنعمل بميزان، هذا يقول وهذا يرد عليه، وفى النهاية الناس تمل.. وساعتها تضيع الدراما.. وأضيع أنا أيضًا. 

■ قلت له: أعتقد أن كثيرين توقفوا عند شخصية عمر الخيام كما قدمتها، وسأكون صريحًا معك.. أنا كنت أراك أنت شخصيًا فى خيام الحشاشين، ولن أخفى عليك أن هناك من اندهش من جرأة الطرح على لسانه، لم يتعود الناس أن يكون هناك بطل درامى يفكك قضايا الخلق والماهية وجدوى الحياة والوجود ذاته، يسأل من أين جئنا وإلى أين سنذهب ولماذا وما الذى نفعله فى هذه الحياة.. أنت كنت تغامر وأنت تكتب شخصية عمر الخيام؟ 

كنت أراه يحاول أن يقاطعنى بعد أن وضحت فكرته، كان ما يريد أن يقوله يلح عليه. 

قال: المسلسل كله مغامرة، بل سأكون صادقًا معك عندما أقول إن حسن الصباح هو أكبر مغامرات حياتى فى الكتابة، لقد جازفت خلال هذه التجربة بأشياء كثيرة جدًا، وأطلقت بينى وبين نفسى صيحة: سأكتب وليكن ما يكون بعدها. 

أما عمر الخيام فأنا لم أستنطقه بشىء لم ينطق به، لكننى صغت ذلك بطريقتى، وأنا فخور جدًا بشخصية عمر الخيام لأسباب كثيرة جدًا، منها أنه نطق بأشياء نطق بها فلاسفة الغرب بعده بمئات السنين، تحدث عن الوجودية قبل أن يكتب فيها روادها وعلى رأسهم سارتر، ولذلك كنت فخورًا وأنا أقدم هذا الفيلسوف الذى يتأرجح ما بين الإيمان والكفر والوعى واللا وعى، لقد نطق بالحكمة قبل الآخرين ونطقها بقلب صادق، يعنى حتى ما يعتبره البعض تجديفًا، فأنا أعتبر أن هذا لم يكن أبدًا عن سوء أدب، لكنه كان ترجمة لحيرة. 

إننى أقول دائمًا إن الأسئلة شريفة، ولا أخاف أبدًا من الأسئلة، أنزعج فقط من الإجابات المغرضة. 

■ رأيت أن عبدالرحيم يحاول أن يتهرب منى، لقد قلت له بوضوح إننى رأيته فى شخصية عمر الخيام، فسألته مرة ثانية: أين كنت وأنت تكتب شخصية الخيام؟ 

قال: أعرف أن ما سأصرح به الآن يمكن أن يكون خطيرًا جدًا، لكننى بالفعل مدفوع لأن أقوله، الخيام بالفعل قريب جدًا من نفسيتى ومن وجدانى، أنا قريب منه بترددى، وبأفكاره التى تسعى ما بين اليقين الكامل والشك التام، ولا أعتقد أن شخصًا على وجه الأرض يخلو من عمر الخيام بنسبة أو بأخرى، الفارق أن نسبة عمر الخيام داخلى قد تكون أكبر من الآخرين. 

■ العاطفة الكبيرة التى تحدث بها عبدالرحيم عن عمر الخيام جعلتنى أسأله عن الانتقادات التى وجهت إلى الفنان «نيقولا معوض»، الذى جسد شخصية الخيام.. فهناك مَن يرى أنه كان الاختيار الوحيد غير الموفق من بين أبطال المسلسل.

كانت إجابة عبدالرحيم مفاجأة. 

قال: لقد تابعت كل ما قيل عن أداء نيقولا معوض، ولن أعارض من قالوا عليه ما رأوه، لكننى أتحدث عن نفسى ككاتب للعمل وكمشاهد له، لقد أرسلت رسالة شكر لنيقولا على أدائه الدور، قلت له فيها: أشكرك.. لقد قدمت شخصية عمر الخيام كما تخيلتها بنسبة تكاد تكون مائة فى المائة. 

رأى دهشتى، فلم يمنحنى فرصة المقاطعة، كان يريد أن يكمل فكرته، قال: أعتقد أن من انتقدوا نيقولا معوض فى حاجة إلى مشاهدة المسلسل مرة أخرى، فالإعادة والتكرار سوف تكشف عن أشياء كثيرة، لقد كان أمامنا فى اختيار الممثل الذى يؤدى شخصية الخيام اختياران، الأول أن يكون أداء كليشيه لشاعر فنأتى بممثل يملك الإيقاع والأداء الذى يتناسب مع شاعر طبقًا لما يتصوره المشاهدون عن الشعراء، أو يكون الممثل قادرًا على أداء الشخصية بحيرتها وترددها والثقل الذى تحمله على ظهرها. 

■ قلت: الحيرة لم تكن نفسية فقط.. أردتها ظاهرة عليه جسديًا. 

قال: هذا ما جرى بالضبط، وعلى الناس أن تتفاعل معه ظاهرًا وباطنًا، لقد اخترت الأصعب وهو ما نفذه نيقولا، رأيت عمر الخيام على هذه الصورة، لم أتخيله شخصًا آخر، المشكلة أن الناس ترسم صورة معينة للشخص، وعندما يأتى من يجسده بشكل مخالف لما تصوروه تحدث ربكة، لو استطعمه الناس بمنظورى أعتقد أن رأيهم سيختلف تمامًا، وسيجدون أن نيقولا كان موفقًا بنسبة مائة فى المائة كما أرى أنا. 

■ من عمر الخيام انتقلت بعبدالرحيم إلى نظام الملك، الشخصية التى أداها باقتدار فتحى عبدالوهاب، قلت له: ألم تكن شخصية عظيمة تاريخيًا مثل نظام الملك تستحق أن تحتل مساحة أكبر من التى أتيحت لها، ألم يكن من حق الناس أن يروا منك ما كان عليه الرجل بالفعل؟ 

قال: نظام الملك فى التاريخ بالفعل هو أحد عظماء عصره، ومنسوبة له أشياء كثيرة منها المدارس النظامية مثلًا، لكن أنا فى النهاية كنت أحكى حكاية الحشاشين من زاوية حسن الصباح وعلاقاته بالآخرين، فحافظت على مكانة نظام الملك لكن من أرضية علاقته بالصباح، وهذه معادلة صعبة جدًا فى الكتابة. 

يعنى مثلًا فى «شيخ العرب همام» على بك الكبير شخصية مرموقة فى التاريخ، ودوره أكبر من همام والمراجع التى تناولته أكثر، لكن عندما تناولته كنت أنظر إليه من خلال علاقته بشيخ العرب همام وليس بدوره فى التاريخ.

■ لكل مؤلف قراءته الخاصة للشخصيات التى يقدمها، لكن هذا لا يمنع أن هناك قراءات أخرى، قلت لعبدالرحيم: أعرف أنك تؤمن بنظرية أنك تقول كلمتك وتمضى، تقدم قراءتك وتترك للآخرين فرصة أن يقرأوا عملك كما يريدون، لا تمارس عليهم وصاية، لكن ما أكثر قراءة للمسلسل وجدت أنها بعيدة عنه تمامًا؟ 

قال: القراءات التى شخصنت العمل أزعجتنى جدًا، بعد أول حلقة وجدت من يقارب بين شخصيات المسلسل وشخصيات واقعية، ورأيت أن هذا استعجال ورؤية غير دقيقة للفن والدراما، هناك من بدأ يقرأ العمل من التترات، ومن بدأ يقرأ من الحلقة الثالثة، لكن مع الحلقات الأخيرة وجدت من بين مَن تعجلوا القراءة يعتذرون لى على تعجلهم، وهذا أسعدنى جدًا. 

لقد أرسل لى أحدهم بعد الحلقة الثانية وقال لى أنا يمكن أن أناقشك فيما كتبت، قلت له المسلسل ٣٠ حلقة يمكن أن نصبر مع بعض قليلًا، ولم أقل هذا تعاليًا لا سمح الله، لقد أزعجتنى القراءات التى فيها شطط أو ترجمة مباشرة، فالفن أوسع من هذا بكثير.

■ قلت لعبدالرحيم: هناك واقعة محددة، فقد كتب أحد أساتذة التاريخ ممن راجعوا المسلسل وقال إنك لم تلتزم بالتعديلات التى اقترحها هو وفريق المراجعة، ثم كتب توضيحًا بعد ذلك أن كلامه فُهم بشكل خاطئ، لن أحدثك فى تفاصيل الواقعة ولا فيما جرى ودفعه إلى أن يقول ما قاله، ولكن سأسألك: ما الدور الذى قام به فريق المراجعة التاريخية؟ 

أجابنى: دور المراجعين التاريخيين كان محددًا، لقد استعنا بهم حتى لا نقول كلمة ليست سليمة بداية من أسماء الأبطال والمدن وأسماء القلاع، تمت مراجعة كل ما هو فارسى وسلجوقى وتركى، كان لا بد أن يكون النطق صحيحًا، المراجعة انصرفت كذلك إلى الثوابت التاريخية. 

يعنى مثلًا التاريخ يقول إن حصار القلعة فشل، فلا يمكن أن نقول إنه نجح، لكن الحصار تم فى عهد من؟ هذه معلومة لا بد من الالتزام بها، لقد نصحنى المراجعون بأن نستعين بالفلاش باك، لكنى رفضت، فهذا ليس دورهم. 

ومن بين ما أضحكنى كان اتصال من أحدهم، قال لى: لديك بعض الأخطاء التاريخية. قلت له: هل رأيت ما فعلته فى زيد بن سيحون؟ لقد جعلته يقوم بأشياء لم تحدث فى الواقع، وفى كتاب «الأخبار فى الأسرار» زيد بن سيحون مختلف تمامًا، ولما أقرنى على ما ذكرت، قلت له: هل تتخيل أن زيد بن سيحون شخصية خيالية من أولها إلى آخرها وليست موجودة من الأساس؟ فصمت ولم يرد. 

أنا من اخترعت زيد بن سيحون وصهبان البلان لضرورات درامية.