رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى كلاوديو برافو

إلياس الطريبق
إلياس الطريبق

 

 

لم يكن للصباح معنى، كانت الخطوات فاترة باتجاه القصر المنيف، تمامًا مثل أشعة شمس ذلك النهار الخريفى من نوفمبر. ماذا تخبئ الرسائل لى؟ سوى أن الإشارات تقر بأن الجمال للجمال وبأن الجمال هو الجمال على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال. أرى هذا القصر الذى كان مشروع موت مثلما كان مشروع حياة. 

كان جنة من فن؛ فيه الماء ينساب وفيه التماثيل عرجاء أو مقطوعة الرءوس. فيه اللوحات مقطوعة من سياقها شبه الواقعى/ السحرى، تشبه يدًا صورت ولم ترسم. رأيت فيه النخيل يطاول قمم الجبال، والسنديان يحرس قمر الليل؛ حتّى شابَ رأسُ العاج وتبرأ الرخام من خطيئته، كان الكرسى الأميرى يحكى رحلته الطويلة من بلاد الهند إلى الأطلسى، أما عظم الجمل فقد كان طاولة للرئيس الفرنسى أو سرير زوجة الشاه ملك إيران، وفى أسوأ الأحوال مِرمدة سجائر. رأيت ما لم ير الرائى: أسماك الشبوط التى يقدسها اليابانيون تسبح فى خط التوازى، تتعارك فيما بينها على فتات الفقّاص المغربى، وهو يرسم أقراصًا مائية وسط البركة المحلاة. رأيت ظلى بعد الظهيرة ينعكس على صفحة الماء. رأيت طريفة حائرةً، وطواحينها تذوب تحت الشمس وخيوط السراب. زاهدًا فى نبيذِ طنجة، ساهرًا أراقب هرقل من المغارة ينمو مثل عشب أخضر بارد.

ودَنَتْ وشوشات البنفسج قرب حواف النواعير، مُمْسكًا روح فنان بيدى أَتَمَثَّلُهَا، أستحضر وجودها بالغياب/ الشهود، الفناء/ الخلود.

قادتنى خطوات ذاك الصباح البريئة نحو كيف يكون الموت جميلًا. تلك القبور بين السطور تخترقها شوارع مكتظة بالباعة والمارة «أسواق- سيارات- حدائق خضراء»، تلك القبور مَن يا ترى يأتى ليزورها؟ من عزّى أحباء دفينيها؟ صلبانٌ من رخام+ أرقام رومانية!

هل كانت للضابط ساق منسية هنالك أم حذاء؟ ومن ذا الذى يتلو تراتيل الترحم وسط كل هذا الضجيج من رخام وحدائق وأسواق؟

تلك كانت أحراش الموت وأنا رأيت كيف أن الفن للفن، وكيف يكون المرء أرستقراطيًا فى كل شىء. «حتى فى موته» تذكرت نيرودا القادم من الشيلى هو الآخر، وأنه مواطنٌ لهذا الذى صار الآن مغربيًا واختار الموت بيننا وصنع جنته بنفسه وعاش ما يستحق العناء، ثم صارت ملكًا مشاعًا بين الآخرين.

كلاوديو برافو هو فنان تشكيلى شيلى «١٩٣٦- ٢٠١١»، قرر سنة ٢٠٠٤ العيش فى المغرب، وقد استقر به المطاف فى مدينة جنوبية تسمى تارودانت، حيث يوجد بها الآن قصره الذى تحول إلى متحف يضم جل أعماله الفنية ومقتنياته الشخصية، وهو أيضًا فندق مصنف يزوره السياح وعشاق الفن من جميع أنحاء العالم، حيث كانت للراحل صداقات تربطه بأهم الشخصيات الكبرى فى العالم، سياسية وفنية وأدبية.