رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأصنام

أمين الزاوى
أمين الزاوى

كنتُ السبب فى كل هذا الذى حصل لوالدى مع رفيقه الصرصور فى زنزانته الفردية، حشرة صغيرة بحجم رفقة غالية وذكرى عالية.

الكائنات كبيرة بأثرها لا بحجمها.       

جئنا إلى الدنيا، أختى وأنا مِن حمْل واحد: أنا حميميد وهى حميدة. 

ولدنا فى يوم أغبر وحار، يوم انقلب العقيد هوارى بومدين على الرئيس أحمد بن بلة، كان ذلك فى ١٩ يونيو ١٩٦٥.

لم يُسمَع لى صراخ ولا لأختى التوأم أيضًا، لا شىء من حولنا سوى الأناشيد الوطنية الحماسية وموسيقى المارشات العسكرية تأتى من على أمواج الإذاعة ومن شاشة جهاز التليفزيون بالأبيض والأسود الموضوع فوق طاولة خشبية قديمة بأقدام عالية فى ركن صالون عيادة التوليد. 

الجميع يردد عبارة: «التصحيح الثورى».

الذين قاموا بالثورة يصححون الثورة، وذلك بقتل أو سجن أو عزل الثوار الذين قاموا بالثورة مع مصححى الثورة. 

أتبع أفكارى التى تشبه سحب الصيف العقيمة الكاذبة! 

الناس حيارى وما هم بحيارى.     

أمى، وعبر باب الغرفة المفتوحة، تنام على سرير من حديد فى عيادة التوليد المسماة باسم المجاهدة «حسيبة بن بوعلى»، ابنة هذه المدينة، تتابع خطاب الرئيس الجديد على شاشة التليفزيون، خطاب موجّه لوحدات الجيش أكثر مما هو موجّه للمواطنين. تتابع أمى لالة رحمة الصور وهى تتناول صحن بركوكس بالتوابل الحارة، هى أكلة خاصة بالمرأة بعد الولادة. 

أمى التى لم تهتم يومًا بالشأن السياسى تتابع ما يجرى وهى تلتهم صحن البركوكس.

لأخبار السياسة طعم آخر حين تكون مغمسة فى مرق البركوكس الحار! 

لم يرق لها وجه الرئيس الجديد المنقلب على الرئيس، لم يعجبها لا شكله ولا لباسه ولا أسنانه الصفراء المنخورة جراء الاستهلاك الشره للتبغ الأسود الرخيص، وكان هذا أيضًا رأى جميع الممرضات إلا واحدة كانت تردد بصوت مسموع بأن الرجل العسكرى النحيف هو ابن قريتها، وأن اسمه الحقيقى محمد بوخروبة، وأنها فخورة به، ولا واحدة استطاعت أن تقف ضدها وتوقفها عند حدها. 

جميع الجزائريين اسمهم محمد. الجزائرى ينادى الجزائرى: السى محمد، مهما كان اسمه، وحين يصحح الواحد للآخر اسمه يرد عليه الأول: أفضل الأسماء ما حُمِّد وعُبّد.      

أمى التى لا تحب السياسة ولا سماع الأخبار باستثناء برنامج يومى خاص بالثورة الفلسطينية يذاع على القناة الأولى للإذاعة الوطنية، والذى تستمع إليه دون أن تفهم شيئًا من لغته الفصيحة جدًا، لكنها سعيدة لأن المذيع ذا الصوت الجهورى لا يتوقف عن ذكر المسجد الأقصى والقدس والقائد أبوعمار. 

من خلال الصور، يبدو الرئيس الجديد مترددًا غير واثق من نفسه، نظراته فيها كثير من الحذر والحيطة والمكر وذكاء الثعلب.

الأناشيد العسكرية خنقت صوت بكائى لمجيئى للحياة.  

قضت أمى ثلاث ليالٍ فى عيادة التوليد «حسيبة بن بوعلى»، فى صباح اليوم الرابع وقبل أن تشتد الحرارة أكثر، فالمدينة معروفة بصيفها الجهنمى، وقد بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها فى الشوارع بعد الإعلان عن تشكيل مجلس الثورة، لكن الإذاعة والتليفزيون لا تزال مقتصرة فى برامجها على إذاعة نشرات الأخبار المتتالية والأناشيد الوطنية وموسيقى المارشات العسكرية، وصل والدى عللّا فليتا إلى العيادة على متن جرار فلاحى، هو ملك للتعاونية الفلاحية للحمضيات يقوده أحد أصدقائه الذى يشتغل مساعد مهندس زراعى، على عجل وحتى دون أن يوقف السائق محرك الجرار، حيث اكتفى بركنه على الرصيف المقابل. بسرعة وبمساعدة ممرضتين ركبنا الجرار، جلست أمى فى الخلف بين كومة من صناديق العنب الفارغة، افترشت غطاء بورابح من الصوف أحضره والدى معه خشية البرد مع أننا على أبواب فصل الصيف، تضعنى على اليمين وأختى التوأم التى تكبرنى ببعض الدقائق على اليسار، وجلس أبى إلى جانب السائق وانطلق الجرار وأبى صامت لا يتكلم.

بعد بضعة كيلومترات التفت أبى جهة أمى، نطق بعبارة واحدة ثم لاذ بصمته: سمّيتُ الطفل الذكر حميميد على اسم الرئيس أحمد بن بلّة، سجلتهما البارحة بالحالة المدنية للبلدية، قالها بحذر مما جعل صديقه السائق ينظر إليه برهبة متفحصًا وجهه بدقة وكأنما يتأكد من صحة عقل مرافقه، ثم قال وصمت نهائيًا: وأطلقت اسم حميدة على البنت. 

قالت أمى بصوت خافت: الحمد لله، اسمان فيهما «الحمد»: حميميد وحميدة.

قال السائق بحذر: أفضل الأسماء ما حُمّد وعُبِّد.    

وإذ وصلنا البيت وجدنا بالباب رجلين غريبين مسلحين واقفين وكأنهما فى انتظارنا، هكذا بديا من حركاتهما، نزلت أمى من الجرار بمساعدة أختى نوارة وإحدى الجارات، على الفور غادر الجرار المكان وكأنما السائق كان يستعجل هروبه، تقدم الشخصان تجاه والدى، كلّماه بهدوء وامرأه بمرافقتهما نحو سيارة عادية كانت متوقفة على بعد أمتار من باب بيتنا، أدخلاه السيارة بعد أن وضعا على رأسه كيسًا من الخش الأسود، وبسرعة جنونية غادرت السيارة المكان ومعها اختفى والدى.

أنا اللعنة الكبرى، ضيعت والدى فى المرة الأولى وأنا أدخل البيت العائلى لأول مرة، وضيعته فى المرة الثانية وأنا أدخل بيت اللـه للمرة الأولى لأداء صلاة الجمعة فى مسجد جامع اليهود.

مسجد جامع اليهود: السبت فى الجمعة!

مسجد جامع اليهود: الجمعة فى السبت!

اختفى والدى لمدة عشرة أيام كاملة، مما اضطر حنة منصورة لتأجيل موعد الاحتفال بالعقيقة، والتى تقام عادة فى اليوم السابع للمولد، يحدث هذا لأول مرة، فحنة امرأة لا تخلف موعدها ولا تغيره، وهو ما جعلها حزينة. دخلت على أمى وهى بصحبة أختى نوارة، قالت وهى فى حالة كالهذيان: «حتى ولو أن موعد الاحتفال بعقيقة المولودين قد تأخر، فموعد رحيلى لن يتغير أبدًا، سأبدأ فى التحضير لجنازتى بمجرد عودة سيدى عللّا فليتا، وسأخبره بيوم موتى بالتدقيق»، قبّلتنى وقبّلت أختى التوأم على الجبين ثم خرجت مرددة: الحمد لك يا رب فى حميميد وفى حميدة.

أفضل الأسماء ما حُمّد وعُبّد، قالتها حنة منصورة رافعة ذراعيها متذرعة للسماء.  

عاد والدى إلى البيت بعد عشرة أيام من الاختفاء، لم يجرؤ أحد على السؤال عنه خلال غيابه، الكل يعرف بأنه عند الحكومة، وحين يكون الواحد عند الحكومة فلا فائدة من سؤال الحكومة عن أبنائها الذين هم ملكيتها المطلقة تفعل بهم ما تريد! 

نحن مشاع للحكومة، ويحيا الاستقلال، وتحيا الثورة، وليسقط الاستعمار الغاشم!

دخل والدى علينا وقد فقد نصف وزنه تقريبًا أو أكثر، وعلى الفور حضّرت له أختى نوارة الحمّام، اغتسل بسرعة وعاد إلى الصالون برائحة الصابون الحلبى المنعش، سأل أمى عن صحتى وعن صحة أختى، كنا نائمين كالملاكين، رفع الإزار عن وجهى، لامس وجنتى، ومثل تلك الحركة فعلها أيضًا مع أختى.

مقطع من رواية «الأصنام» القائمة الطويلة للبوكر العربية