رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البطريرك بيتسابالا في قداس الميلاد: أصلي من أجل غزة

بييرباتيستا بيتسابالا
بييرباتيستا بيتسابالا

ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين، قداس منتصف ليلة عيد الميلاد المجيد في كنيسة القديسة كاترينا، المحاذية لكنيسة المهد في بيت لحم. وشارك في القداس موفد البابا فرنسيس الشخصي للتضامن مع الأرض المقدسة الكاردينال كونراد كراييفسكي، ولفيف من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، وشخصيات رسميّة ومؤمنين.

وقال البطريرك الكاردينال بيتسابالا في عظته: في هذه الليلة أود أن أكون صوتًا للمشاعر الدفينة، التي تعصف بنا جميعا ونجد صداها في الإنجيل الذي تلي على مسامعنا: "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ"  كما حدث مع مريم ويوسف كذلك يحدث معنا، يبدو أنه لا يوجد موضع أو حيّز للميلاد. لقد داهمنا شعور أليم، منذ أيام كثيرة، بأنه لا يوجد مكان هذا العام لبشرى الفرح والسلام التي أعلنتها الملائكة لرعاة بيت لحم في هذه الليلة المقدسة وعلى بعد أمتار قليلة من هنا.

في هذه اللحظة لا يسعنا إلا أن نفكر في كل أولئك الذين تشرّدوا بسبب الحرب وتُركوا وحدهم، مجردين من أي شيء، وقد تجرّعوا مرارة الفراق وكأس الألم. أَذكُر الجميع، دون تمييز، الفلسطينيين والاسرائيليين، وجميع المتضرّرين من هذه الحرب، والذين هم في حالة حداد وبكاء منتظرين بادرة مودّة وكلمة دفء. في هذه الليلة أتذكر الرهائن المخطوفين. أتذكر الأسرى الذين يقبعون في السجون دون محاكمة. أفكّر على وجه التحديد في أهل غزة وفي المليونين من سكانها. إن عبارة "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِع" تعبّر جيدا عن حالتهم المعروفة اليوم للجميع وعن معاناتهم الصارخة التي لا تتوقف عن مناشدة العالم بأكمله. ليس لأحد منهم مكان آمن، منزلًا كان أو سقفا، وهم محرومون من أساسيات الحياة، جائعون ومعرّضون لأعمال عنف لا تفسّر. يبدو أنه لا يوجد مكان لهم ليس فقط من الناحية امادية، ولكن أيضا في أذهان أولئك الذين يقرّرون مصائر الشعوب. يعيش الشعب الفلسطيني هذا الوضع منذ فترة طويلة جدا، وبالرغم من أنه يعيش على أرضه، يقال عنه باستمرار: "ليس له موضع"، وينتظر منذ عقود أن يجد المجتمع الدولي حلا ينهي الاحتلال، الذي يعيش مكرها تحت نيره، متحملا نتائجه. يبدو لي اليوم أن الجميع منغلق وراء ألمه. الكراهية والاستياء وروح الانتقام تحتلّ مساحة كبيرة في قلبه ولا تترك مجالا لوجود الآخر. ومع ذلك، فإن وجود الآخر ضروري لنا. لأن عيد الميلاد يقوم تحديدا على حقيقة أن الله جعل نفسه حاضرًا بشريا وفتح قلبنا لرؤية العالم من حولنا بمنظور جديد.

لا يعني أن العالم كان دائمًا مضيافًا نحو المسيح: وليس جديدا علينا القول بأنه لم يبق في ثقافتنا الاستهلاكية والأنانية، أثر كبير للإيمان المسيحي. ولكن في هذا العام، هنا بالتحديد، لا بل وفي العالم بأسره، يبدو أن عجيج السلاح

وبكاء الأطفال ومعاناة اللاجئين وصراخ الفقراء ودموع العائلات الثكلى تجعل موسيقى ترانيمنا نشازا، وفرحتنا صعبة المنال، وكلماتنا بلاغة جوفاء.

من الواضح بنفس القدر أننا نكافح، خاصة اليوم وهنا، لإيجاد مكان للميلاد في أرضنا وحياتنا وقلوبنا. وهذه الطريق، التي شقّها السيد المسيح، معرضة للاندثار بين الشوارع التي دمّرتها الحرب وبين ركام وأنقاض المنازل المهجورة. قد يكون قلبنا المثقل بالأحزان غير قادر على أن "يتناغم" مع الميلاد. فالألم الكثير، وخيبة الأمل المرّة، والوعود الكثيرة والمنقوضة تغزو قلبنا حيث من المفروض أن تتردّد كلمات إنجيل عيد الميلاد وتلهم أفعالا وسلوكياتٍ تصنع السلام وتنعش الحياة.

أيها الأعزاء، لديّ رغبة في القلب تتحول إلى صلاة: فلتكن رغبتنا في فعل الخير، من خلال كلمة "نعم" لله نقولها بكل وعي وسخاء، وليكن التزامنا بالمحبّة والخدمة، هي المساحة التي يمكن أن يولدَ فيها المسيح، مرّة تلو المرّة!

أطلب لنفسي أولا، ثمّ لكنيسة الأرض المقدسة وللكنيسة جمعاء: أن نكون بيتًا للجميع، ومساحة مصالحة ومغفرة للباحثين عن الفرح والسلام! أخاطب جميع كنائس العالم، التي تتطلع إلينا في هذه اللحظة، ليس فقط للتأمل في سرّ بيت لحم، بل أيضًا لمواساتنا في هذه الحرب المأساوية: احملوا لشعوبكم وقادتها رسالة "نعم" يقولونها لله، وتضرعوا لخير شعوبنا، كي تتوقف الأعمال العدائية، وكي يتمكن الجميع من أن ينعموا بالسلام داخل بيوتهم.

أصلي كي يولد المسيح من جديد في قلوب حكّام الأمم وقادتها، فيلهمهم قول "نعم" التي جعلت المسيح صديقًا وأخًا للجميع، فيعملوا بجدّية لوقف هذه الحرب، وأكثر من ذلك من أجل استئناف الحوار المؤدي إلى إيجاد حلول عادلة وكريمة ونهائية لشعبنا. إن مأساة هذه اللحظة، في الواقع، تفيدنا بأن الوقت لم يعد يسمح بالحلول قصيرة المدى، وللتأجيل والتنظير، وحان الوقت لنقول، هنا والآن، كلمة حقيقة، واضحة ونهائية تعالج الصراع القائم من جذوره، وتزيل مسبباته العميقة، وتفتح آفاقًا جديدة من الصفاء والعدالة للجميع، للأرض المقدسة، لا بل ولمنطقتنا بأكملها، التي تتأثر أيضًا بهذا الصراع. إن كلمات "احتلال" و"أمن" والعديد من الكلمات الأخرى المشابهة التي هيمنت على خطاباتنا لفترة طويلة يجب تعزيزها بكلمتي ثقة واحترام، لأن هذا هو ما نريد أن يكون عليه مستقبل هذه الأرض، وهذا وحده هو الذي سيضمن الاستقرار والسلام الحقيقيين.

ليولدِ المسيح من جديد في هذه الأرض، التي تخصّه وتخّصنا، ولتبدأ من هنا مسيرة إنجيل السلام للعالم أجمع! ليولد المسيح من جديد في قلب من يؤمن به، فيدفعه إلى إعطاء القدوة الحسنة وتأدية الرسالة، دون خوف من الليل ومن الموت! ولتلد أيضًا في قلب من لا يزال غير مؤمن، الرغبة في السلام والخير، والحقيقة والعدالة!

ليولد المسيح أيضًا في رعيتنا الصغير في غزة. أيها الأبناء الأعزاء، اعتدت أن أقضي معكم بضعة أيام قبل عيد الميلاد. هذا العام لم أتمكن من ذلك، لكننا لن نتخلى عنكم. أنتم في قلبنا، والجماعة المسيحية بأجمعها في الأراضي المقدسة وفي جميع أنحاء العالم تلتف حولكم. نرجو أن تشعروا قدر الإمكان بدفء قربنا ومحبتنا.