رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سمعت كل شىء

سارة الصراف
سارة الصراف

أكتوبر ١٩٨٥

كبرت كثيرًا اليوم، فى الحقيقة أنا كبرت جدًا طوال هذا العام الذى لم يتبقَّ له إلا القليل، ويرحل، قد تكون أرواحنا مثقوبة، نحن جيل الحرب، تتسرّب الطفولة منا دون أن نتذوقَ أيامها، دون أن تمهلنا أن نتمنى، أن نكبر، الجميع كبار، الأطفال كبار، لأنهم يتحايلون على طفولتهم، حتى لا يسألوا لماذا يموت الكبار هنا أكثر من غيرهم؟ لماذا تبكى النساء كثيرًا؟ لماذا الأسود هو لون ثياب الجدات دومًا؟ لماذا لا وجود لأغنيات الطفولة؟ لماذا تختصر برامج الكرتون، ويبدأ التليفزيون يومه بصور من المعركة؟ أى طفولة تلك التى تبقى فيهم، وهم يراوغون الأسئلة؟ كبرت أنا، عندما شهدت موت محمد وعلى وإيناس، كبرت كثيرًا عندما التقيت جدى للمرة الأولى فى بيت الغرائب ذاك، لكنى لا أزال أحتفظ بنعمة الأمل والتمنى، لا أزال معجبة بحيدر الذى ودعته آخر يوم فى الامتحانات فى حزيران الفائت، لا أزال أراقب طلاب صفى يلملمون تساؤلاتهم، يحاصرونها فى زوايا الأدمغة الصغيرة ويندمجون بلعب الكرة، لا نزال نتبادل الفكاهات.

لا أزال أنا ورغد نتهامس بأسرارنا الصغيرة، تفاصيل الاكتشافات المتجددة لجسدينا، نحكى طُرفًا تافهة ونضحك عليها طويلًا، بل ربما أصبحت أفكر أكثر، وأتذمر أقل، أقترب من جدتى لأننى أعرف أن الموت يحوم، هنا، فتصبح الحياة أغلى، أريد أن أعيش كل شىء كما هو، أستمتع به قبل أن يمضى ككل شىء، لكنى، لم أتخلَّ عن بهاء الحلم الذى يُغرقنى فى مجون يكاد يقذفنى إلى نقيض الواقع، فأسرف فى الجنون، وأمضى فى غمرة الحلم باكتشاف دروب كل الممنوعات فى الواقع، وأذكر نفسى دومًا بأن لا أحد يشهد على تفاصيل اقترافها، إلا أنا وأنا.

ما زال يبهرنى الاستغراق فى تخيل زمان آخر ووجوه أخرى وحكايا وأدوار، الأمل فى أمنيات تتحقق ما زال ممكنًا لدىّ، ليس لدىّ فقط، إننا حالة واحدة، وقد يسكن الآخرين الشعورُ ذاتُه، لكن العمق يختلف ربما.

اليوم كان الأول فى مدرستى الجديدة، «الوزيرية»، مملكة نسائية بحتة، لا رائحة للذكور فيها، رغم أننى سأدرك بعد وقت ليس بالطويل، أن أحلام البنات بالشباب المتربصين خارج السور انتظارًا لنهاية الدوام وانعتاق محبوباتهم من سجن المدرسة تجعل رائحة الذكر تفوح، بل تملأ أنوف حتى المديرة والمدرسات، فيتأهبن لمطاردة أشباح المتلصصين فى عقول وقلوب الطالبات، فى ضفائرهن، التى يطلقنها قبيل جرس الخروج، فى الأحمر على خدودهن، والتنانير التى تبدو أقصر نهاية الدوام منها فى بدايته!

السيارات التى تحوم حول المدرسة وجمهرة الطالبات على بابها، بعضهن ينتظرن الأهل والأخريات ينتشرن جماعات بين الشوارع القريبة من المدرسة، يضحكن ويتلفتن، يرمين بسهام نظرات غنج ودعوة إلى الشباب من بعيد، بائعو السكاكر منتشرون بينهنّ، فيتجمّع عندهم الطرفان بحجة الشراء، بينما يتبادلون الابتسامات المسروقة، الآمال والأحلام ترفرف عاليًا فوق رءوس البنات، وخليط من التناقضات والأمانى من بينها الحب، يملأ عقول الشباب وربما قلوبهم.

فُوجئت بأننى أنا وزينب فى الفصل ذاته، أخيرًا لن أعانى الوحدة التى عانيتها عندما انتقلت رغد من «نجيب باشا»، فلم أشعر بالغربة منذ اليوم الأول، بل على العكس، منحنى وجود زينب ثقة بالتعرُّف إلى أخريات، كنا نذهب ونعود سيرًا، نتبادل السندويتشات خلال الاستراحة بين الدروس، نراقب الفتيات وهن يتجمعن فى أركان الساحة، يتهامسن ويضحكن، أو حتى يلعبن، ويتخاصمن.

كنا نلاحق من نسمع أنها مخطوبة، نتفرج على شعرها الذى سرعان ما يتغير لونه تماشيًا مع حالتها المتفردة، كن يصبغنه بلون أقرب إلى الأشقر حالما يتم الإعلان عن خطبة إحداهن، لا أدرى لماذا؟! ربما هو إعلان صامت عن تحولها من طفلة إلى امرأة، استعدادًا لأنْ تصبح زوجة وأمًا.

أمشى أنا وزينب كفًا بكف، نتلصص على تلك الفتاة من بعيد، نقترب أكثر، أنظر إليها كأنها مخلوق فضائى، تتلفّت هى مختالة بشعرها وبالخاتم الذى تلتقط بريقه أعينُ الفتيات حولها، تضحك بدلال، تتصنع المرح، تتعامل مع زميلاتها بتعال مغلّف باللطف.

كنت وأنا أراقبها أطلق خيالى بعيدًا، أبحث عن معنى أن تكون فتاة مخطوبة وهى لم تتعدَّ الرابعة عشرة من العمر، الخطوبة كانت تعنى لى زيارة مفتوحة إلى الجنة مع رجل وسيم، مفتول العضلات، غنىّ أيضًا، يغمرها بحنانه ورومانسيته، بل أذهب أبعد وأتخيل قبلته، ولمساته التى تُوقظ فيها أنوثتها الوليدة، سيقودها حتمًا، سيعلمها كيف تستمتع بأنفاس الرجل، بعد أن كانت تنام مع دميتها بالأمس القريب، عندما أخبر العمَّة فطوم بأن فلانة مخطوبة، كانت تستقبل الخبر كالفجيعة، تضرب على صدرها.

- يااا! خطية!

فأنتفض أنا كأنى أدافع عن حلمى بقصة حب كالأفلام!

- يعنى ليش عمّة؟ شكو بيها هى بالأخير راح تتزوج.

تبتسم لى بإشفاق، وتردد..

- أى، شكو بيها!

لم أكن حينها أدرك أنها تشفق على سذاجتى، لم أكن أدرك أن «بيها» فوق ما أتخيل، وليس «شكو بيها» مثلما كنت أعتقد، وأن الفرحة بإغاظة وإبهار الصديقات والفساتين الجميلة، والسعى لاقتناء مبكر لأدوات التجميل وتلوين الشعر، سرعان ما ستتلاشى، أمام حياة جديدة على شكل صندوق مغلق ستدخله وحدها، دون أهل أو صديقات أو أضواء ملونة، سيكون عليها أن تعانى بصمت، تحتمل عتمته بصبر إن كان معتمًا، داخل ذلك الصندوق ستجد نفسها أصبحت اثنين أو ثلاثة وأكثر، سيُثقلونها، سيخرسون صوتها، فلا تجرؤ على أن تطلب النور مجددًا، لن تقوى على الخروج من ذلك المصير الأبدى، دون خسائر أو ضحايا.

مقطع من رواية «سمعت كل شىء» 

القائمة الطويلة جائزة البوكر العربية