رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

٧ أكتوبر ٢٠٢٣.. جردة أولية لحسابات المكسب والخسارة! «2»

استعرضنا فى المقال السابق جانبًا من «حسابات المكسب والخسارة» العائدة على الطرف الفلسطينى، والناجمة عن عملية «طوفان الأقصى»، وتوابعها الزلزالية، وبيقين معلن أن الوقت ما زال مبكرًا للقيام بـإجراء «جردة نهائية» لما ترتب على هذا الحدث التاريخى من مكاسب وخسائر، وبالذات فى علاقته بالأطراف الأساسية المرتبطة به: الشعب الفلسطينى، والكيان الاستعمارى الصهيونى، ثم بالدوائر الأوسع: الدائرة العربية والإقليمية، وفى القلب منها مصر، والعالم بأقطابه الفاعلة: الولايات المتحدة والدول الغربية والصين وروسيا، وغيرها.

ونرصد هنا، أبرز الخسائر على صعيد جبهة العدو الصهيونى وحلفائه الغربيين:

١ـ كشفت وقائع يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، بجلاء، عن هشاشة التكوين الصهيونى، وهزال ادعاءاته ودعائم بنيانه الرئيسية، فـ«الجيش الذى لا يُقهر»، مالك أكثر الإنجازات التكنولوجية العسكرية المتطورة فى العالم، وعضو النادى النووى المتفرد فى المنطقة، والمدجج بأحدث موديلات القاذفات القتالية الفائقة من طراز «F -١٦»، وصواريخ «باتريوت» الأمريكية المتقدمة، والطائرات المسيرة الحديثة، وتطبيقات «الذكاء الاصطناعى» الحربية، وأرفع تقنيات التجسس فى البر والبحر والجو، وصاحب «القبة الحديدية» و«الجدار العازل»، بما أنفق عليها من مليارات هائلة،... إلخ، اخترقت مناعته، وبسهولة غير مسبوقة، إرادة المقاومة الفلسطينية، وإيمانها بقضيتها، وباستخدام وسائل بالغة البساطة وهزيلة التكلفة، اعتمدت على الإيمان بالقضية، وكراهية المحتل، والإصرار على مواجهته والانتصار عليه فى المقام الأول!

٢- وهذا الإخفاق الذريع اعترف به رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلى، «هارتسى هاليفى»، الذى أقرَّ بفشل جيشه؛ وشُعبة استخباراته؛ أمام مفاجآت السابع من أكتوبر «١»؛ وتعددت الآراء حول انهيار الثقة فى جدارة أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وفى مقدمتها جهاز الاستخبارات الخارجية «الموساد»، الذى تمتع بسمعة كبيرة على امتداد العقود الماضية، وقد شكّك المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، «سى آى إيه»، «جون برينان»، فى قدرات الاستخبارات الإسرائيلية، وذكر «برينان» فى حديث لقناة «MSNBC» الأمريكية: «ستكون هناك مراجعة تامة، ولكن الأحداث تثير التساؤلات حول مدى فاعلية جهاز الاستخبارات الإسرائيلية وارتباطه مع صانعى القرار، وعما إذا كان هذا النظام قويًا بما يكفى، كما رأيناه فى السنوات الماضية»؟ «٢» وفى يوم ٩ أكتوبر ٢٠٢٣، أدلى «أبوعبيدة»، الناطق العسكرى باسم «كتائب القسَّام»، بتصريح مهم، أشار فيه إلى أن عددًا من مقاتلى القسَّام، تمكَّنوا من الانسحاب من قاعدة «أوريم» العسكرية- التى تضم وحدة الاستخبارات رقم ٨٢٠٠- بعد انتهاء مهمتهم فيها، وإجهازهم على عدد كبير من قوات الاحتلال. «٣» ومعلوم أن قاعدة «أوريم»، «Urim Station، إحدى أهم منشآت التجسس فى العالم، وقد أُنشئت بتعاون أمريكى، بريطانى، كندى، أسترالى، نيوزيلندى، ومهمتها الأساسية التنصت والتصوير والتشويش واعتراض المكالمات حتى البحرية منها، ويغطى نطاق عملها: الشرق الأوسط، وأوروبا، وإفريقيا، وآسيا؛ ورغم كل ذلك أخفقت فى رصد عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر! 

وقد ذكرت وكالات الأنباء، أن مقاتلى «حماس» استولوا فى هجومهم على وثائق وتسجيلات ومواد كمبيوترية ثمينة من مقر هذه القاعدة. «٤» 

٣ ـ عمّقت حرب «طوفان الأقصى» عناصر التفكّك داخل الكيان الصهيونى، وأبرزت حجم التفسخ الداخلى، وانعدام التوافق المجتمعى، خاصة فى الموقف من قضيتى: الأسرى المدنيين والعسكريين لدى المقاومة، وتصاعد وتيرة الخسائر البشرية فى القوات الصهيونية، ما أظهر فشل القيادة الصهيونية بزعامة المجرم «بنيامين نتنياهو» وزمرته، رغم ما تم شنَّه من غارات انتقامية همجية على شعب فلسطين الأعزل، وما سببته من ضحايا ومصابين، وخلفته من مآسٍ وخراب، فى القطاع الصامد.

وستتضاعف عناصر الانقسام والفرقة التى بدأت قبل القتال الأخير، بعد أن تسكت المدافع، ويحين وقت الحساب العسير لغفلة القيادات السياسية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية، وجميع المتسببين فى الثغرة الخطيرة التى سمحت بمفاجأة ٧ أكتوبر!

٤- كبّدت الحرب الكيان العنصرى الصهيونى خسائر بشرية قاسية فى الحرب الدائرة ضد المقاومة الباسلة فى غزة، وبلغ عدد قتلاهم من الكوادر العسكرية «الرفيعة»، حسب إحصاءات النصف الأول من شهر ديسمبر ٢٠٢٣: ٤٨٣٦ قتيلًا، ١٨١٣٤ مُصابًا «منهم ١٣١٥ فى حالة خطرة، و٣٧١٩ حالة إعاقة، ٣١٤٥ حالة انهيار عصبى تام»، فضلًا عن الخسائر المدنية والمترتبة عن الاقتحام صبيحة يوم ٧ أكتوبر، والأسرى لدى المقاومة من المدنيين، والتى تضمنت ١٢٠٠ قتيل، ٥٤٣١ مُصابًا، و٢٣٩ أسيرًا. 

وتعمد الأوساط الرسمية العسكرية، إلى عدم نشر الأرقام الحقيقية للقتلى والمُصابين، والعسكريين؛ حفاظًا على هيبتها من جهة، وعلى الروح المعنوية للإسرائيليين من جهة أخرى؛ لكنها فى كل الحالات رقم صعب للغاية، قياسًا إلى عدد سكان الكيان المحدود، والحساسية الشديدة التى تمثلها له الخسائر البشرية عمومًا، والخسائر فى عناصر النخبة فى «جيش الدفاع الإسرائيلى» بشكل خاص! 

٥ ـ وأزالت معركة «طوفان الأقصى» الغُمّة عن العيون، وأوضحت بجلاء «نفاق» العالم الغربى بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وعرَّت سياساته فى «الكيل بمكيالين»، ونزعت القناع عن ادعاءات الغرب بشأن دفاعه عن «حقوق الإنسان»، وانحيازه لقيم «الحرية، والإخاء، والمساواة»، وغيرها من الشعارات الطنَّانة، وأبانت أن الصراع- فى جوهره وأساسه- هو ضد «الهيمنة الإمبريالية الأمريكية» والمصالح الاستعمارية الغربية وأطماعها فى ثروات الشعوب، التى دعت الولايات المتحدة والغرب إلى تحريك الأساطيل وحاملات الطائرات، ومد العدو الصهيونى بالأسلحة والذخائر والمعونات العسكرية الاستراتيجية، وبزيارات المسئولين الغربيين المتكررة، وفى مقدمتهم «جو بايدن» الرئيس الأمريكى الصهيونى باعترافه، الداعمة لإسرائيل، والضاغطة على النظم العربية لصالح الكيان المحتل، والناظرة باستخفاف إلى الدم الفلسطينى المراق، ومذابح الأطفال والنساء، وحرب الإبادة الصهيونية لأهل غزة! 

وكذا عرّت هذه المعركة وهم الثقة فى، والاعتماد على «المؤسسات الدولية»، وعلى رأسها «الأمم المتحدة»، و«المحكمة الجنائية الدولية»، اللتان عجزتا- بسبب الفيتو الأمريكى المتكرر- عن اتخاذ قرار صحيح يوقف العربدة الصهيونية، ويأمر بإيقاف الحرب الهمجية فى غزة وسائر ربوع الوطن الفلسطينى السليب، وعقاب «الصهيونى القبيح» على ما اقترفت يداه!

٦ ـ وصحَّحت وقائع الحرب الدموية الأخيرة الصورة الفعلية للكيان فى نظر العالم؛ والنقيضة للصورة المثالية التى اخترعتها الأوساط الإمبريالية والصهيونية لـ«إسرائيل»، وروَّجت لها، وعمَّمتها فى جميع أرجاء المعمورة؛ باعتبارها «ساحة الحريات» و«واحة الديمقراطية» فى صحراء العرب الجدباء، ومن ثم وجب مساندتها ودعمها والوقوف خلف كل قراراتها، والتعاون معها للقضاء على التهديدات التى تواجهها من الدول العربية التى تفتقد هذه القيم الغربية النبيلة، وظهرت حقيقة الكيان الصهيونى جليّة بلا رتوش: كيان عنصرى استيطانى يُعيد استخدام آليات النظم العنصرية البائدة.. ومآله كمآلها، وإن طال الزمن، إلى «مزبلة التاريخ»!

٧- الخسائر المادية الكبيرة، والمتمثلة فى تكاليف الحرب، التى تبلغ نحو ٢٥٠ مليون دولار يوميًا، وهجرة شركات التكنولوجيا الفائقة برءوس أموالها، ومصانعها، والعاملين بها، وخبراتها إلى الخارج، وشلل الإنتاج الناجم عن استدعاء نحو ٣٦٠ ألف مجند احتياطى، وتوقف الأنشطة السياحية، وتوقف العديد من المشروعات الإنتاجية والصناعية عن العمل «أنظر فصل: النتائج الاقتصادية لحرب الإبادة الصهيونية»، فضلًا عن الخسائر الهائلة المترتبة على تهجير، وتعويض، وإعاشة مئات الآلاف من مستوطنى «غلاف غزة»، وهى المنطقة التى كانت تغطى بإنتاجها الزراعى والحيوانى، ٧٠٪ من احتياجات سكان الكيان.

وقد أفادت وزارة المالية الإسرائيلية أن الإيرادات العامة انخفضت بنسبة ١٥.٦٪ فى شهر نوفمبر الماضى، ويرجع ذلك- جزئيًا- إلى التأجيلات الضريبية بسبب الحرب، كما أنها سجَّلت عجزًا فى الميزانية بلغ ١٦.٦ مليار شيكل «٤.٥ مليار دولار»؛ خلال شهر نوفمبر ٢٠٢٣، وأن نسبة العجز بلغت ٣.٤٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى شهر نوفمبر، مقارنة بـ٢.٦٪ فى شهر أكتوبر. وأشار مصدر فى الوزارة إلى أنه من المتوقع أن يبلغ العجز لعام ٢٠٢٣ حوالى ٤٪ من الناتج المحلى الإجمالى. «٥» 

٨ ـ تصاعد وتيرة «الهجرة المضادة»، من داخل الكيان الصهيونى إلى خارجه، جراء الأزمات السياسية والاجتماعية، والتى تضاعفت بسبب الحرب ومخاوفها وعدم الاستقرار الناجم عن التوترات الحادة فى المنطقة، وفد وصلت معدلاتها إلى «أعلى مستوى منذ تأسيسها» حسب تقديرات الخبراء، فمنذ تفجرت الأوضاع بعد ٧ أكتوبر، «فرَّ أكثر من ٣٧٠ ألف إسرائيلى إلى الخارج، بخلاف العمالة الأجنبية واللاجئين والدبلوماسيين، وفق صحيفة «زمان إسرائيل»؛ كما انخفضت الهجرة إلى الكيان الصهيونى بنسبة ٧٠ بالمئة عن مُعَدَّلها الطبيعى.

وحسب الخبراء، يعود السبب فى رحيل هذه الأعداد، الأكبر للمغادرين منذ إنشاء الكيان الصهيونى؛ فى هذه الفترة القصيرة، إلى أن هجوم ٧ أكتوبر «ضرب أحد أهم الأركان التى قامت عليها إسرائيل، وهو توفير الأمن»؛ فقد اعتادت إسرائيل نقل حروبها إلى خارج أراضيها، على العكس من هذه المرّة، حيث وقع الهجوم فى قلب إسرائيل، وكان معظم القتلى مدنيين. وكلما طال أمد الحرب سيهاجر عدد أكبر، «ومن المتوقّع ألّا تعود النسبة الأكبر منهم، خاصة حملة الجنسية المزدوجة، بل وقد يتنازل بعضهم عن الجنسية الإسرائيلية»! «٦»

٩ ـ التحفُّظ على الأسرى العسكريين الصهاينة يمنح المقاومة الفرصة لمبادلتهم بنحو ٦٠٠٠ من المناضلين الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، والمحكوم على بعضهم بمئات السنين عقابًا لهم على أنشطتهم الوطنية المعادية للاحتلال، ويفيد فى تفعيل ضغط أهاليهم على «نتنياهو» وإدارته، لإيقاف الحرب الهمجية على غزة ومواطنيها.

١٠- أدت الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، والفظائع التى سببتها عمليات «الإبادة الجماعية» الصهيونية للمدنيين العُزَّل من أبناء الشعب الفلسطينى، إلى تأجيج نيران الكراهية لليهود، أو ما يوصف بـ«معاداة السامية»، فى مناطق عديدة من العالم وبالذات فى الدول الأوروبية، وحسب تقارير وزارة الداخلية الفرنسية، فقد تم تسجيل ١٢٤٧ حادثة «معادية للسامية» منذ ٧ أكتوبر، أى ما يقرب من ثلاثة أضعاف إجمالى العدد المُسَجَّل فى عام ٢٠٢٢، وأعلنت «الجمعية اليهودية» الرئيسية فى الدنمارك أن الحالات ارتفعت ٢٤ مرة عن متوسط الأشهر التسعة السابقة، بينما أبلغ «صندوق أمن المجتمع» الذى يتعقب الحوادث «المعادية للسامية» فى بريطانيا عن أكثر من ألف حادث فى غضون ٢٨ يومًا فقط! «٧».

المصادر:

(١) جريدة «المصرى اليوم»، القاهرة، ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٣.

(٢) موقع «العربى» الإلكترونى، ٤ ديسمبر ٢٠٢٣. 

(٣) وكالة أنباء «فارس»، ٩ أكتوبر ٢٠٢٣. 

(٤) لمزيد من التفاصيل عن «قاعدة أوريم»، انظر: نيكى هاجر، الآذان المُترصدة: كيف يتجسسون عليك؟ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ٢٠١٧، الفصل الثانى عشر، أُذن إسرائيل المترصدة، ص: ٣٤٥ـ ٣٤٩. 

(٥) موقع «الحدث» الإلكترونى، مباشر، ١٥ ديسمبر ٢٠٢٣.

(٦) سكاى نيوز عربية، ١١ ديسمبر ٢٠٢٣.

(٧) جريدة «العرب»، ٢٩ نوفمبر ٢٠٢.