رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دمعة على الموت الأول

حياة الروح
حياة الروح

قضيت العامين أدور فى فلك جميلة. حرصت على أن أصطحب معى فى سفرى مذكراتها، وأملى أن أستعين بها لأكتب رواية بنية تخليد ذكراها. انشغلت بكتابة هذه الرواية أكثر من انشغالى برسالة الدكتوراه التى سافرت لأنجزها.
أعدتُ قراءة المذكرات مرة تلو الأخرى، أكتشف فى كل مرة نقطة غابت عنى، أفك بعض الخطوط المكتوبة بعجل، والمعانى المستغلقة علىّ، حتى تمثلتها. ولم أكتف بالمذكرات، فجميلة أغفلت- عمدًا أو عن غير قصدٍ- بعض مراحل وتفاصيل من حياتها ظلت مناطق مظلمة، استعنتُ بشهادات من قابلتهم وعرفوها عن قرب لسبر غموضها، وأعترف بأنى كنت أحيانًا أُعمل خيالى لأستكمل الصورة.
فى أحد خطاباتى له طلبت من عادل بركة الرد على السؤال المعلق الذى لم تسمح الظروف بالإجابة عنه منذ ذلك الحين: "لماذا لم تتزوجا؟"، فجاء رده ليضيف ملمحًا هامًا فى شخصيتها:
"أما زلت مُصرة يا هند على هذا السؤال بعد كل ما مر من وقت؟ كنت أتهرب من الإجابة عنه؛ لأن به ما لا أحب أن أردده عنها، فهو أمر شخصى. لكن إذا كنتِ ترين أنه سيضيف لحقيقة جميلة فى نظرك، فسوف ألخص لك سبب عدم زواجنا رغم ارتباطنا الشديد.
بعد اتفاقنا على الزواج طرأ على جميلة بعض الأعراض الصحية فلجأت لزيارة الطبيب لتكتشف بالصدفة أنها لم تعد قادرة على الإنجاب. تراجعت عن قرارها بالارتباط بى. حرمت نفسها من السعادة مع مَن تحب حتى لا تحرمه من أن يكون أبًا. أصرت على موقفها رغم إلحاحى وقبولى بما فرضه الله علينا؛ بل وشجعتنى على الزواج لأحقق أمنية أمى فى أن يكون لها أحفاد.
وطَّنت نفسها على أن تكون العلاقة بيننا علاقة صداقة ومحبة. هل تتخيلين أنها هى من حاكت فستان الزفاف لزوجتى بنفسها؟ كانت نبيلة وشُجاعة.
تأكد لى أن ما قالته جميلة لتامر لتعينه فى يوم ما على اتخاذ قرار السفر لم يكن مجرد حكم تلوكها بلسانها؛ بل قيم كانت أول من التزمت بها، وطبقتها على نفسها.
"المِحَن التى يمر بها المحبون اختبار لحبهم. المحب الحقيقى هو من يضحى من أجل حبيبه، وليس من يطالبه بالتنازل عن أحلامه".

السيرة لا تنتهى بموت أصحابها.
عامان وجميلة ما زالت حاضرة بروحها، وما تركته من أثر بعد موتها على من عرفتهم فى حياتها.
فى نهاية خطابه الأخير، اقترح الدكتور تامر أن نلتقى فى باريس، المسافة فى المنتصف بين إنجلترا ومونبيلييه التى تقع فى الجنوب الشرقى لفرنسا:
"إيمان متشوقة للتعرف عليك قدر تشوقها لزيارة باريس".
نجحت إيمان فى الاختبار. بعد ستة أشهر من البعاد أدركت ما يمثله تامر لها. فى يوم، فتح بابه ليجدها أمامه ترتمى فى حضنه.
عقدا قرانهما فى اليوم التالى فى القنصلية المصرية فى هدوء بحضور أصدقاء تامر. تنازلت إيمان عن كل مطالبها الشكلية، ويعيشان الآن فى سعادة، تحاول أن تدعمه بكل ما يمكنها ليستكمل دراسته من أجل مستقبل لهما أجمل.
"كنت أدعو لجميلة، وأنا أوقع على وثيقة زواجنا، فبفضل نصيحتها حققت حلمى فى الارتباط بإيمان ودراسة الدكتوراه".

من نافذة حجرتى رأيت الشمس تبحث عن منفذ تطل منه. أزاحت السحب. تراجع المطر. زين الأفق قوس الألوان.
قوس قزح يذكرنى بك يا جميلة.
رحلتِ. وبغيابك طمس اسم أنوش.
ألبسونى شخصية مترددة منطوية منقادة محاطة بسياج آمن.
اختبأت أنوش فى مكان خفى بعيدًا عن الجميع لحين يأتى يومٌ تعودين فيه وأعود أنوش التى ربيتها على حب الحرية والجمال والفن والحياة.
انتظرت يومًا أبحث فيه أنا عنك. وأنا كنت حبيسة أكاذيب غموض.
فاغفرى لى غفلتى.
بحثتُ عن حقيقتك لأبكيكِ بصدق.. وجدت نفسى.. وذرفتُ دمعة على موتك الأول.
إرثى منك ليس فقط بعض خضرة عينين، بل رصيد معاناة يعيننى على خوض الحياة بقسوتها، ومعنى للحب أصبح دليلى.
لم يغيبك الموت عنى.. أنت تعيشين فىَّ يا جميلة.