رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفتاح

أحمد محروس
أحمد محروس

كان الزمان فى يوم من أيام صيف عام ٢٠٠٧.. وكان الحر قائظًا والجو شديد الحرارة.. ولولا أن سائق الباص جعل درجة حرارة التكييف الخاص بالباص فى أدنى درجاتها لكان الركاب قد اختنقوا من شدة الحرارة.. كان الباص منطلقًا من «عمّان» عاصمة مملكة الأردن، ومتجهًا إلى «إسطنبول» عاصمة تركيا.. كان يجلس على أحد المقاعد بالباص شيخان طاعنان بالسن أكل الزمان منهما وشرب، يدور عمرهما حول أوائل العقد الثامن من عمرهما.. وفى المقعد الخلفى منهما يجلس شاب يدور عمره حول «٣٠» سنة.. هو شاب فى مقتبل العمر وابن أحد الشيخين الجالسين أمامه، واسمه «عونى»، وهو مريض بالقلب.. اصطحبه أبوه الشيخ الطاعن فى السن ذو الـ«٧٢» عامًا لكى يجرى له عملية تغيير صمامين بالقلب فى أحد مستشفيات جراحات القلب الشهيرة فى العاصمة التركية «إسطنبول»..

وفجأة سأل أحد الشيخين صديقه الجالس إلى جواره..

الشيخ عواد: شو هادا اللى فى رقبتك يا شيخ أبوعصبة؟!

الشيخ أبوعصبة: هادا مفتاح يا شيخ عواد!

الشيخ عواد: باعرف إنو مفتاح.. من شكله مبين إنو مفتاح!.. بس مفتاح شو؟!

الشيخ أبوعصبة: هيدا مفتاح بيتنا القديم فى «صفد» بفلسطين.. من ساعة المرحومة أمى «أم سمير» ما حطته برقبتى وأنا عمرى ما خلعته لليوم!.. أنا فاكر آخر كلماتها لى الله يرحمها: أنتم رجال يا أبوعصبة.. والراجل الزين ما يضيع عياله ولا مفتاح بيته.. خليه برقبتك يا أبوعصبة ليوم الدين، عسى الله يردنا فى يوم معلوم لبيتنا فى صفد، ويرد عنها الغاصبين المحتلين!

الشيخ عواد: صار لك ٦٠ سنة والمفتاح برقبتك يا أبوعصبة!.. ولا عمرك بيوم خلعته من رقبتك حتى وأنت بتتحمم!

الشيخ أبوعصبة: ولا عمرى خلعته حتى وأنا باتحمم!.. الله لا يجعلنى أخلعه يا عواد إلين أنزل قبرى وأقابل وجه رب كريم.. وحتى لما أنزل قبرى أنا موصى عونى ابنى ياللى جالس ورانا إنه يشيله من رقبتى يحطه برقبته!

الشيخ عواد: ولا عمرك بيوم نسيت «صفد» يا شيخ «أبوعصبة».. لسه بعد متذكرها بعد ما قضيت ٦٠ سنة من عمرك بعمّان بالأردن!

الشيخ أبوعصبة: أحد بالدنيا بينسى بيته ياللى انولد فيه يا شيخ عواد.. بيتنا كان تلات أدوار أحلى وأوسع بيت بالدنيا.. حوله بستان برتقان يجرى بيها الفرس نهارين بلياليهم ما يخلصها.. المرحوم أبوى كان أكبر تاجر موالح بصفد كلها.. أحلى برتقان بتاكله بالعالم هاى كلو كان برتقان أبوى بصفد والبرتقان اليافاوى!.. بهدا البيت يللى بعمرى ما أنساه شفت تجار من كل ركن من أركان الأرض جايين يشتروا برتقان من المرحوم أبوى.. تجار سوريين ولبنانيين وعراقيين وأرمن ويونان ومن تكريت ومصاروة من إسكندرية والسويس وإسماعيلاوية.. بيتهيألى ما فى حدن من كل بلد من الموانى الواقعة على البحر الأبيض المتوسط كله ما أخد برتقان من بيت أبوى.. وكان أبوى بآخر أرض الجنينة ياللى زارع بيها البرتقان كان مسوى زاوية صغيرة.. كان هو أمام هادى الزاوية.. عند كل صلاة ينزل كل المزارعين ياللى بيشتغلوا فى أرضنا ومعه كل التجار ياللى كانوا يزورونا فى البيت ويصلى بيهم المرحوم أبوى أمام وبعد الصلاة وهما بيختموا الصلاة يتمم أبوى معهم صفقات بيع البرتقان والموالح!

الشيخ عواد: أنت اتعلمت يا شيخ أبوعصبة؟!.. قصدى يعنى رحت مدارس؟!

الشيخ أبوعصبة: أيوه طبعًا.. أبى الله يرحمه أرسلنى وأنا ابن ٦ سنين لكتّاب عمى الشيخ صالح.. أتممت فيه حفظ القرآن وأنا عمرى ١٠ سنين.. كان أبوى بدو إياى أكمل زراعة معه فى الضيعة.. بس أمى رفضت الله يرحمها وصممت تدخلنى مدارس أنا وإخواتى السبعة.. وهاد ياللى نفعنا بدنيتنا.. لأنو إحنا خسرنا الضيعة، وكان زمانا مو عارفين شو نسوى بحياتنا.. دخلتنا مدارس كلنا.. ولما قامت حرب ٤٨ كان أول شى اتذكرته أمى تاخد أوراق المدارس معنا وإحنا تاركين صفد.. أبى كان رأيه أنها مشكلة وبتخلص عالصيف.. جلس يقول لأمى اتركى البيت عا حاله.. ما فى ولا شى.. هاى جيوش ٧ دول عربية داخلة على رأسها مصر والسعودية.. معقولة يكونوا بيمزحوا.. الحرب من مايو لسبتمبر.. الجيوش العربية بتطرد عصابات الصهاينة كلها من فلسطين.. عاسبتمبر الجاى شهر دخول المدارس بتكون المشكلة كلها انحلت والعيال بيدخلوا مدارسهم عادى.. أمى قالت له طيب خلينا ناخد الأوراق على عمان ما بيجرى شى.. رجعنا عا صفد بنجيب الأوراق معنا... ما رجعنا خلينا نلاقى مدارس للعيال بعمان ويكملوا حياتهم عادى.. الله يرحمك يا أمى.. كأنها كانت بتقرا الغيب!

الشيخ عواد: بتتذكر يوم ما طردوكم من صفد يا أبوعصبة!

الشيخ أبوعصبة: أيوه طبعًا بأتذكر.. أنا باسميه اليوم المشئوم بحياتى.. كان بوقت الهدنة بحرب ٤٨... الجيوش العربية نامت وارتاحت واعتقدت أن الحرب خلصت وماكو أوامر... أما عصابات الصهاينة شدوا عزمهم وجالهم سلاح وتبرعات من الإنجليز ٤ أضعاف ياللى كان معهم قبل بداية الحرب.. نزل الصهاينة بيوم مشؤوم على صفد.. كان يوم اتنين أنا ذاكره زين لليوم.. ولفوا بالباصات على صفد كلها ومعهم ميكروفونات... قدامكم ليوم الجمعة.. ياللى بدوا يخرج بالسلم حبيبنا وبنوصله بهاى الباصات على عمان بالأردن.. وياللى بدوا يجلس معناتو مستنى العرب والجيوش العربية وهاد عدونا وإحنا بعد يوم الجمعة مو مسئولين عنه بنحاربه مثل ما بنحارب العرب.. واجا يوم الجمعة.. كانت أمى بتسميه «يوم الحشر»!.. حشرونا بالباصات.. الباص يللى بيتحمل ١٠٠ كانوا بيدزوا بيه ٤٠٠!.. ورحنا على عمان ومن يومها ما رجعت على صفد ولا شميت ريحتها تانى بحياتى.. كان يوم الجمعة هاد هوا اليوم اللى المرحومة أمى سلمتنى المفتاح برقبتى.

فات على هذه المحادثة الشيقة أسبوعان..

كان الباص قد وصل إلى إسطنبول بالسلامة... وأجرى الشيخ «أبوعصبة» الجراحة الدقيقة لابنه «عونى» بإسطنبول.. ونجحت العملية.. الأطباء أخبروا الشيخ «أبوعصبة» أن ابنه بيحتاج نقاهة حوالى ١٠ أيام بالمستشفى حتى يسترد صحته تمامًا ويقدر يرجع على «عمّان»!

وفى صباح يوم من أيام النقاهة العشرة.. والشيخ «أبوعصبة» جالس يتناول فطوره بكافيتريا المستشفى.. إلا ويلاقى قدامه شاب مليح طول بعرض ملامحه أقرب للبولنديين وليس للعرب أو الأتراك على الإطلاق.. ألقى عليه تحية الصباح بلهجة عربية مكسرة تكتنفها لهجة عبرية واضحة:

- شالوم عليخم شيخ أبوعصبة!

- وعليكم السلام والرحمة.. مين أنت يا ابنى؟!

- أنا إلياهو.. إلياهو شاحاك بن عزرا.. إسرائيلى من مواليد منطقة «جاليلى» ياللى العرب بيسموها منطقة «الجليل الأعلى» أو «صفد القديمة»!

- وإيش تبغى يا أستاذ «إلياهو شاحاك بن عزرا» ياللى من مواليد «صفد» القديمة؟!

- أولًا بدى أسألك عن اسمك حتى أتأكد.. أنت الشيخ «أبوعصبة راشد تميم الطفيلى» ابن الحاج «راشد تميم الطفيلى» أشهر تاجر موالح بصفد القديمة، وياللى كان بيملك أكبر مزرعة برتقان بصفد القديمة؟!

- أينعم.. أنا هو حرفيًا من ذكرت!

- طيب.. ممكن أجلس أشرب معك فنجان قهوة!

- طبعًا شرف.. مرحبًا!

- زين.. خلينا نقول الحكاية من أولها.. أنا أبوى «العقيد شاحاك بن عزرا» واحد من المؤسسين الأوائل، ياللى أسسوا عصابة قديمة اسمها عصابة «الأرجون».. هاى المنظمة اختفت حاليًا واندمجت فى جيش الدفاع الإسرائيلى.. ما أعرف إذا سمعت فيهم ولا لا؟!

- أعرفهم بالاسم واحد واحد.. وهادى المنظمة هى ياللى طردتنى أنا وأبوى وعيلتى كلها من صفد القديمة!

- زين.. أبوى بعد ما دخل هو وعصابة الأرجون «صفد».. استولى على مزرعة أبوك «الشيخ راشد الطفيلى» وقرر يعيش بالفيللا ياللى كنتم عايشين بيها.. وتقابل هوا مع الدكتورة «ميشيل تزوهار» يهودية من بولندا كانت طبيبة تحاليل متطوعة بخدمة عصابات «الأرجون وشتيرن» الصهيونية... بتاخد منهم تحاليل دورية علشان تقاوم أى طفيليات أو عدوى أو طاعون ممكن كانت تيجى لأى ضابط أو متطوع فى الأرجون أو شتيرن.. تزوجوا بالبيت ياللى كان تبعكم وخلفونى أنا «إلياهو» وأختى «راشيل» بهدا البيت!

- وشو ياللى حصل بعد هيك؟!

- لا أنا ولا أبوى قادرين نفهم شو اللى حصل ولا شو ياللى قاعد يحصل!.. بالمزرعة ماتوا كل الزرع والأشجار ياللى فيها.. أشجار البرتقان ياللى كانت بتطرح دهب بإيد أبوك ماتت كلها.. أمى الدكتورة «ميشيل تزوهار» تركت الطب وجلست تفرغت لزراعة المزرعة.. عملوا أبحاث جابوا سماد استخدموا كل الطرق العلمية لزراعة الأرض ما فى فايدة إطلاقًا.. الأرض ما جابت ولا ثمرة برتقان واحدة من ساعة ما تركتها أنت وأبوك وإمك وإخوتك كأنه فيه لعنة وصابتها.. كأن المزرعة أو الضيعة حزينة على رحيلكم وما بدها تشتغل وتنتج إلا إذا رجعتولها!.. بعدها بحوالى ٢٠ سنة تقريبًا سنة الـ٦٧ أمى أجاها سرطان بالكبد واتوفت بنفس السنة... أختى «راشيل» اتولدت قعيدة مشلولة.. صار لها جالسة على الكرسى أكتر من ٥٠ سنة... أبوى طبعًا اتعلق بأختى «راشيل» إلى درجة الجنون بعد وفاة أمى.. أبوى صار متأكد أنه فيه لعنة صابته وصابت زوجته وبنته بسبب هاى المزرعة تبعكم... وإنه هاى اللعنة ما بدها تنفك إلا إذا أنتم اتسلمتوا البيت والمزرعة مرة تانية.. صراحة أنا مو مصدق هاى الكلام بس هاد هوا الحكى ياللى طالع من إيد أبوى.. بس من ٦ شهور وإحنا مسويين لكم نداءات على ياهو وجوجل وتويتر وكل السوشيال ميديا بالعالم.. أنت وكل عيال الشيخ «راشد الطفيلى» وإحنا عارفينكم بالاسم لأن لقينا صور من شهادات الميلاد تبعكم والوثائق ياللى تثبت ملكيتكم للبيت والمزرعة!

- وين لقيتوها؟!

- بأدراج مكتب أبوك بالمزرعة عنا!.. أنا هون بالمستشفى أنا وأبوى وأختى «راشيل».. أبوى كان جايبها يعالجها هون! بالصدفة وأنا بمكتب محاسب المستشفى اصطدمت بيه اليوم الصباح فوقعت من يده الفواتير.. انحنيت أساعده تا ياخد الفواتير تانى.. لمحت اسمك على فاتورة منهم.. الشيخ «أبوعصبة راشد الطفيلى».. قلت بعقلى معقول!.. معقول الصدفة تكون جابته لهون حتى يستلم بيته ومزرعته!

- وأنا شو اللى مطلوب منى حاليًا؟!

- متل ما قلت لك هالحين... تتسلم البيت والمزرعة من أبوى لأنه أبوى معتقد أن عمر أختى «راشيل» ما بترجع سليمة وصحيحة وتقوم من على الكرسى إلا إذا استلمتوا البيت والمزرعة منا مرة تانية.. وأنا وراشيل وأبوى بنرجع على أمريكا! أبوى خلاص كره فلسطين وإسرائيل والأرض والدنيا كلها.. وصيته إِلى إذا مات بدو يندفن بأمريكا!

تهلل وجه الشيخ «أبوعصبة» فرحًا وذهب مسرعًا كالمجنون إلى ولده «عونى» وأخذ يقبل وجنتيه ويقوله: يا وش السعد... يا وش السعد.. مرضك خلاك ترجع لى بيت ومزرعة جدك!

وشال «المفتاح» من رقبته وحطه برقبة «عونى» وأوصاه:

ولا عمرك تخلع هاد المفتاح من رقبتك.. وإذا إِلك زملاء شباب بعمرك فيه برقبتهم مفتاح بعمرهم ما يخلعوه... بيوم هاى المفاتيح بترجعكم لبيوت أجدادكم يا ابنى.. البيوت بتنادى أصحابها يا ولدى.