رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مستشفى المعمدانى

بشرى أبوشرار
بشرى أبوشرار

هناك تركت مطارح أقدامى، هناك حيث بيت جدتى القريب منها، يوم وضعت كف يدى الصغير فى كف امرأة خالى «فايزة»، أخذتنى إلى طريق يصل بنا إلى «مستشفى المعمدانى»، أخذتنا تلة رملية، وانبسطت أمامنا ساحة «غزة» يستدير من حولها سور المعمدان، يتوسطها بابها الخشبى الأخضر، عبرت الساحة، يدى فى يدها، وقفنا أمام البوابة، تدق بيدها، يصلنا الصوت، يفتح الباب وأنا إلى جوارها، تقابلنا ساحات، تناثر الورد عليها، درجات تأخذنا إلى أعلى، هدوء وصمت، حتى وقفنا بباب حجرة أمى التى وضعت وليدها، وكان ميلاد الفرح فى قلوبنا.

 

كيف لى أن أنسى يوم انسكب الماء الساخن على وجه أختى «سلافة»، كان مستشفى المعمدانى يضمها، فقدنا الأمل فى عودتها، هى لا تعرف مواقيت الألم الذى سكن دارنا، كم من الوقت عشنا فيه ودمعات أمى لم تجف، وصمت أبى وهواجسه من فقد قادم لن تحتمله قلوبنا، يوم ذهب إليها والدى، وصله همسها تناديه، هو مستشفى المعمدانى الذى أعادها إلينا طفلة أحبتها قلوبنا.

 

يوم انتزعت أظفار يدى لحظة أغلق عليها الباب الحديدى، أخذت محمولة إلى مستشفى المعمدانى، بكاء أمى ووجع يسكن قلبها أن أظفارى لن تعود تسكن يدى، وصرت ما بين طريق بيتنا إلى ساحة السيارات حيث البوابة الخضراء، آخذ مكانى على مقاعد الاستقبال فى المستشفى، يلتقط الطبيب يدى ويعالج جروحى النازفة، ثم آخذ طريقى مشيًا على الأقدام، أعود إلى بيتنا وأمى على حالها وحديث لها لا يتغير أن أظفارى لن تعود، وظل طريق المستشفى وقد اعتادت قدماى الذهاب إليه من بيتنا، هى أظفار يدى التى عادت تنبت من جديد، هى فرحة أمى وفرحة قلبى كلما نظرت إلى كف يدى أن صارت لى أظافر كما باقى أخواتى.

 

«مى مسعد» وحافلة تقف بباب دارها التى تقابل دارنا، تأخذها إلى مستشفى المعمدانى، تمضى إليها فى عطلتها الصيفية، تتعلم من دروس وهوايات وألعاب، تقضى يومًا كاملًا هناك، كم من المرات كنت أنا وأخواتى فى صحبتها، نلعب، نكتب، نعزف الموسيقى فى قاعات جمعتنا هناك حيث مستشفى المعمدانى.

اليوم اشتعلت النيران فى قلب المعمدانى من قذائف غدرهم، صوت «مى» يصلنى باكيًا عبر الأثير، وأنا صرت هناك، وزوجة خالى «فايزة» رقدت فى المقبرة التى تقابل بوابتها الخضراء، قلبى ذهب بعيدًا، قد لا يعود... لا يعود.

 

«ميرال» يصلنى صوتها باكيًا، ترنيمة من روح الوجع، قالت لى إن معزوفتها الأثيرة غادرت البيانو، لم تستطع الاقتراب منه، البيانو سكنت مساحاته الأتربة، كيف لها أن تزيح عنه التراب وتعزف «موطنى»، قد تصير هناك فى البعد البعيد، وكيف لها أن تعود من جديد.